شارعُ الرشيد.. ذاكرةُ بغدادَ الثقافية والسياسية

3٬236

آية منصور /

هو روح بغداد القديمة، وذاكرة العراقيين التي يتنفسون من خلالها ماضيهم البهي، الذي لم تبق منه سوى صورة يتغزل بها الشعراء، وحسرات توجع قلوب محبيه، بعد أن تركه الإهمال يشيخ ويطلق صرخات الإغاثة دون جدوى.
جادّة خليل باشا
لا يدرك الكثير من العراقيين ماذا يعني يوم 23 تموز 1916، ويمر ذلك اليوم على الكثيرين دون أن يعيروه أدنى اهتمام، لكنه لم يكن يوما ًعادياً، اذ شهد افتتاح (جادّة خليل باشا) أو (شارع الجادّة) أو شارع الرشيد لاحقاً، وهو الشارع الممتد من منطقة باب المعظم باتجاه جامع سيد سلطان علي، ليكون بذلك أول شارع مبلط في العراق، وواحداً من أهم المراكز الحيوية في الشرق الأوسط منذ تأسيسه حتى اليوم.

الحافلة الحمراء ذات الطابقين
وشارع الرشيد شهد، قبل أكثر من ستين عاماً، انطلاق الحافلات الحُمر ذوات الطابقين (حافلات مصلحة نقل الركاب) ليكون أول شارع في الشرق الأوسط تسير فيه تلك الحافلات التي يصعد إليها مسؤولو النقل، ليتأكدوا بأنفسهم من نظافة المقاعد، ولا يكاد الشارع يخلو من السيارات، حتى يبدأ العمال بغسل أرصفته بخراطيم المياه والمنظفات مساء كل يوم، ليصبح نظيفاً وبراقاً في اليوم الثاني.

الرقم السحري
للرقم (أربعة) فعلٌ سحريٌ في شارع الرشيد، فمن المفارقات العجيبة أن الشارع العريق يضم أربع ساحات رئيسة ما تزال شاخصة حتى يومنا هذا، وهي ساحة الغريري أو ما تعرف حالياً بساحة عبد الكريم قاسم، وساحة الميدان وساحة الوثبة وساحة الشاعر معروف الرصافي، كما يضم أربعة جوامع هي: جامع حسين باشا الذي يعدّ من أهم دور العبادة في بغداد، وجامع الحيدر خانة وجامع مرجان وجامع سيد سلطان علي.
ويحتوي على أربعة أسواق كبيرة ومهمة عند العراقيين كافة تلقى إقبالاً هائلاً من جميع المدن والأسواق هي: سوق هرج وسوق الصفّارين أو ما تعرف بـ «سوق الصفافير» وسوق الشورجة التجاري والسوق العربي، ويتصل الشارع العريق بأربعة جسور بدءاً من جسر باب المعظم ثم يتوسطه جسرا الشهداء وجسر الأحرار وينتهي بجسر السنك.
أورزدي باك
شهد الشارع إنشاء أول مركز حضاري حديث للتسوق في الشرق الأوسط، وهو (الأورزدي باك) إذ يحتوي على مقهى مطل على نهر دجلة، وإذا أردنا التحدث عن المكتبات، فلا مكتبة تضاهي “مكتبة مكنزي” المكتبة الأولى والأكبر، التي كانت توفر أحدث الكتب بشتى اللغات.

“شربت” القادة والرؤساء!
ثمّة معالم بارزة ارتبطت بهذا الشارع المدهش، فابتداءً من باب المعظم الى الباب الشرقي سنشاهد أمامنا جدار القلعة وبابها المفتوح دائماً ثم ساحة القلعة، وعلى جهة النهر سنجد السجن القديم الذي يسمى “سجن القلعة” وهو اليوم مقر وزارة الدفاع.
ثم سننتقل الى قهوة أمين التي سميت قهوة الزهاوي ثم شناشيل أحمد القيماقجي وقهوة حسن عجمي ثم مدرسة شماش اليهودية ثم دكان الحلبي الحجي (خيرو برمبوز) وشربت “الحاج زبالة” الذي شرب منه الملوك والرؤساء الذين يزورون بغداد، إذ يحرص ملوك ورؤساء العراق على اصطحاب ضيوفهم الى شربت زبالة لتذوقه.

مقاهٍ ودور سينما شهيرة
في الناحية الأخرى للشارع سنجد مدرسة الصوفيّة التي ارتادها جميل صدقي الزهاوي وبعدها شارع الأكمكخانة (المتنبي)، وفي آخر هذا الشارع سنرى قهوة الشابندر، والى اليسار من شارع الرشيد وابتداءً من بيت اسماعيل حجي خالد توجد سينما العراق ثم تأتي قهوة عارف آغا فجامع الحيدرخانة ثم دربونة الخشالات وسوق باب الآغا الى سلمان باك وساحة الرصافي التي حلّت محلّه ثم قهوة فتاح. في الجانب الأيمن ونحن قادمون من باب المعظم تأتي رويال سينما ثم النجارون في باب الآغا، ثم خان فتح الله عبود ثم مدخل سوق الشورجة وجامع مرجان.
بعدها سنتجه نحو سوق الصفافير ودكان الحلّاق كاظم ومعاونه عبود، وهو أشهر الحلاقين في هذه المنطقة على جهة اليمين وخان علي صائب الخضيري على جهة اليسار ثم صارت بعدئذ مكتب صيرفة أدور عبودي و(بنكو دي روما) في الثلاثينات وهو الآن البنك المركزي ومصرف الرافدين.
ثم ينتهي شارع الرشيد بقصر كان يقيم فيه القنصل البريطاني الذي اتخذه، فيما بعد، مقراً لوزارة الاقتصاد ويوجد قريباً منه قصر الباجه جي الذي يعد نهاية شارع الرشيد حيث الكنيسة الإنكليكانية (الإنكليزية).

الانتقال الى المجهول
لكن ما يؤلم حقاً، أن هذا الشارع العريق ابتُليَ بالإهمال، وبدت هذه الشواهد مجرد ذكريات أليمة، إذ أحاطت به النفايات والفوضى، هذا المكان الذي كان شاهداً على أهم الأحداث في التأريخ العراقي الحديث، اليوم يُنسى، وتُنسى معه أعمدته الضخمة، التي تمثل ملامح وجهه الحزين.
هذا الشارع تحول اليوم الى أشبه بمقبرة كبيرة للنفايات وبقايا المحال التجارية، أرض متسخة على امتداده، فوضى تعم أرجاءه، وأبنية تؤول الى السقوط دونما رعاية أو اهتمام، من يستطيع التخيل؟ ومن يريد رؤية شارع الرشيد بهذا الوضع دون ان يشعر بغصّة في قلبه؟
تهديم الجمال
يؤكد أبو محمد (56عاماً)، الذي يعمل بائعاً للعدد اليدوية والكهربائية في أحد محال شارع الرشيد، أن التقصير ليس من الحكومة فقط، لأن جميع محاولات أمانة بغداد لمنع لحماية هذه الواجهة التراثية تنتهي بحفنة أموال إضافية من المستثمرين.
-على غفلة من الوقت، تهدم الكثير من المعالم العمرانية التي كانت الأجمل، لتصبح محال تجارية بواجهات بائسة، لو أنهم يرمّمون داخل المباني ويتركون الواجهات لكان الوضع أفضل، لكن ما يجري هو تهديم المباني على نحو كلّي، كيف يحدث هذا؟ يحافظ العالم على تراثه ونحن نهدم كنوزنا.
تلك التفاصيل المعمارية الصغيرة للواجهة التراثية في الشارع بدأت بالاختفاء شيئاً فشيئاً، وتهدد بنهاية حقبة رائعة.
يتمنى أبو محمد المحافظة على ما تبقى من تلك الشواهد الجميلة قبل فوات الأوان واندراس التأريخ، ويقول بحسرة:
-حتى محاولات الترقيع التي تطول الشارع اليوم، هي على الأكثر غير جادّة، وقد تؤذي وتضرّ الشارع أكثر إذا ما استمرت بهذه الطريقة.
مدير عام بلدية الرصافة (أحمد خوّام) قال إن هناك رؤية واضحة ومخطّطة للشارع، ولكنها بحاجة لتخصيصات محددة، لم نتمكن حتى اللحظة من الحصول عليها، ولفت الى أن البنك المركزي العراقي قدم مبادرة لتطوير جزء من الشارع من منطقة حافظ القاضي ولغاية الرصافي، وحالياً هناك أعمال في هذا المقطع كما أن أمانة بغداد ستقوم بإكساء هذا المقطع.
وأوضح خوّام أن أمانة العاصمة تستمر جاهدة بحملات التنظيف الدائمية، لكنها لا تستطيع السيطرة دائماً، إذ يوجه اللوم الى أصحاب المحال التجارية الذين لايشعرون بالمسؤولية تجاه نظافة الشارع، داعياً إياهم الى التعاون مع الجهود التي تبذلها البلدية، مشيراً الى قلّة التخصيصات المالية التي لا تكفي لنظافة الشارع وترتيبه.

التعاون مع الجميع
أما مدير إعلام قيادة شرطة بغداد، (العقيد نبراس محمد)، فيؤكد حرص قيادة شرطة بغداد على نشر الدوريات بما يتلاءم وأهمية الشارع مشدداً على التعاون مع أصحاب المحال ووجهاء المناطق للحفاظ على معالمه، لافتاً الى أن لا أحد يعلم بحجم الجهود المبذولة من قبل وزارة الداخلية للحفاظ على هيئة الشارع، فهنالك تنسيق مع المجلس البلدي ودائرة الآثار لإبلاغنا عن كل جديد من أجل تحصينه.
لكن الأسئلة تستمر بحثاً عن إجابات شافية قبل أن يلفَّ النسيان هذا الشارع العريق.