سعاد الصباح.. نخلة البصرة التي حطبها “سيف العرب”!

2٬860

كريم راهي/

في عام 6981 اختلف الشيخ مبارك الصباح (مؤسس دولة الكويت الحديثة) مع أخويه الشيخين محمد وجرّاح، واستأثر بالحكم لنفسه، ثم تطور الخلاف فاستشعرت ذرية الشيخين الخطر الكامن، فغادروا الكويت إلى الزبير مع أتباع لهم يطلبون الأمان، وكانت لهم هناك ضياع وأملاك، لأن الكويت كانت آنذاك خاضعة لحكم ولاية البصرة العثمانيّة الممتدة حتّى جنوب دولة قطر، ذلك يوم كان الخليج، المتنازع على تبعيّته للآن، يحمل اسمه العثماني؛ (بصرة كورفزي)، أي خليج البصرة.

بعد جيلين من لجوء آل الشيخين إلى الزبير، ظهر النفط بالكويت، أو كاد، فاندملت الجراح، وأَنست ستةُ عقود من الهجرة، أمرَ ذلك الخلاف، ثمّ بدأ الأحفاد بالنزوح المعاكس إلى أرض الأجداد، وعادوا ليتسنّموا المناصب السيادية فيها أسوة بأبناء عمومتهم، ذرية الشيخ مبارك الكبير، ولعب التصاهر فيما بينهم دوره، ليُنهي ما كان من أمر القطيعة للأبد.

نخلة عراقية

كانت عائلة الشيخ محمد بن صباح بن محمد الصباح تريد أن تغادر البصرة الى الكويت، وفيهم شابّة قاربت سنّ البلوغ، ستتزوج من صاحب المآثر، الشيخ عبد الله أصغر أبناء الشيخ مبارك الصباح (الكبير)، وسيستقيل زوجها من كلّ مناصبه السياديّة ويرحل بها إلى بيروت فالقاهرة فلندن، حيث مأثرته الأخيرة، وحيث مغادرتها بعد ذاك لتعود للكويت وهي تحمل شهادة الدكتوراه بالإقتصاد.

لكن هذه (النخلة) العراقيّة التي ولدت لأم عراقيّة هي ابنةٌ لأحد مشايخ الزبير، واسمها (شيخة بنت أحمد الثاقب)، ستبقى تحنّ لأرض السيّاب التي غذّتها الشعر وهي في مهدها، وللبيئة المتحرّرة التي أباحت لها الجهر بأشعار الحبّ النزاريّة وسط مجتمع تحكمه التقاليد الذكوريّة الأبوية، وهي المتزوجة من الرجل الثاني في حكومة دولة الكويت، وسنتذكر في هذا الصدد قصيدتها (كن صديقي) التي غنّتها فيما بعد المطربة (ماجدة الرومي):

“كن صديقي، فأنا محتاجة جدا لميناء سلام

وأنا متعبة من قصص العشق، وأخبار الغرام

وأنا متعبة من ذلك العصر الذي يعتبر المرأة تمثال رخام.

فتكلم حين تلقاني.. لماذا الرجل الشرقي ينسى،

حين يلقى امرأة، نصف الكلام ؟ “.

وفاء في غير محله

لكنّها، وفي خطوة للوفاء في غير مكانها، ستقف بعد ربع قرن من فراقها البصرة، وفي واحد من محافلها الشعريّة المكرّسة لتمجيد الحرب العراقيّة الإيرانيّة، لتمدح جيش العراق مُمثّلاً بـ(سيف العرب)، وتنشد على الأسماع، مطوّلة شعريّة لم تخلُ من التحدّي، حملت عنوان (قصيدة حبّ إلى سيف عراقي):

“أنا امرأة قرّرت أن تحبّ العراق

وأن تتزوّج منه أمام عيون القبيلة”.

ثمّ تعترف جهراً، بانتمائها، وحنينها الجارف للأرض التي وُلدت وشبّت على ترابها:

“أنا امرأة من جنوب العراق

فبين عيوني تنام حضارات بابل

وفوق جبيني تمرّ شعوبٌ وتمضي قبائل

فحيناً أنا لوحة سومرية

وحينا أنا كرمة بابلية

وليلة عرسي هي القادسيّة”.

السيف الذي قتل أهلها!

لكنّ هذا (القرار) بالزواج الضارب للأعراف، والعرس في ليلة القادسيّة بالذات، لم يمنع من أن ينقضّ ذلك (السيف) العراقي بين ليلة وضحاها على بلادها الآمنة، ليروّع أهلها، ويخرّب أرضها، ويُشبع بُنيتيها الفوقيّة والتحتيّة معاً نهباً وتدميراً، ويمعن في قتل أهلها قتلاً طال حتّى أسرتها التي فجعت في أول يوم للغزو، بمقتل الشيخ فهد الأحمد الجابر الصباح، وذلك بعد أعوام قليلة فصلت بين وقفتها المربديّة تلك، ووقفة أخرى على أطلال قصرها الأبيض بالسرّة، وقد نال منه النهب والتخريب، وهي تندب:

“أيّها الجارُ الذي هدّم داري

وأنا عمّرتُ في قلبي له ركناً ودارا”.

بعد أن كانت تصدح في مرابد الحرب:

“أعطني خوذة جندي عراقي، وخذ ألف أديب”.

أو أن تبكي فتفصح عن سبب بكائها:

“كلّما فكّرتُ في بغداد والكرخ

وفي الجيش العراقيّ الذي يرفع عن أولادنا العارَ، بكيت”.

أو في ما كان يُنشر لها بجريدة (القادسية) العراقيّة على هذا النمط:

“يا عراقيين شكرا لكمُ

فلقد أنقذتم العالم من حكم المجانين

وأكل الآدميين، وايقاع الطبول الهمجية”.

حوار الورد والبنادق

وبعد أن جمعت تلكم الأشعار الحماسيّة وأصدرتها عام 1989 في كتيب حمل عنوان (حوار الورد والبنادق)، عدلت بعد عام واحد فصارت تتبرّأ من أنها كتبتها لسيف العرب شخصيّاً، وإنما للعراق بشكل عام، وهي تبرر ذلك حين تسألها محررة من صحيفة (الشرق الأسط) بالقول: “لم أكتب شعراً عن صدام حسين، أنفي أن أكون قد كتبت قصيدة مباشرة عنه. كتبت عن شعب العراق وعن المرأة العراقية، وعن الجيش العراقي… لم نقف مع العراق إلا بعد سقوط الفاو عام 1985. لم نكتب حرفاً عن العراق، إلا بعد أن وصلت النار إلى ثيابنا”.

بصرية الجذور

على أنّها لا تتنكر لبصريتها، ولا تنكر فضل بساتين الفاو عليها، ففي لقاء لها مع (روان الضامن) بُثّ من قناة الجزيرة عام 2008، تعترف بأن خضرة أشجار الفاو ومياه شطّ العرب، هي التي أملت عليها كتابة الأشعار، حينما كانت لا تزال في (مريول المدرسة): “حقيقةً البساتين التي هي أملاكنا في منطقة الفاو لما كانت جدتي تأخذني إلى هناك هذه البساتين الخضراء هي التي أعطت شعري هذه المائية واللون الأخضر”.
وهنالك من يزعم أنها صارت بعد الغزو، تلعن الساعة التي أنشدت فيها تلك الحماسيّات، ولم تُضمّنها الطبعات اللاحقة لدواوينها التي قيل أنه لولا تلك البواكير البصريّة في حياتها، لكانت ستُكتب بالشعر النبطي. وأشيع أن القائمين على تدوين محطّات حياتها، قاموا بمحو كلّ ما يمّت بصلة لتأريخها الشعريّ المرتبط بحقبة التمجيد لجيش صدّام، وقد تحققت من ذلك بنفسي بعد اطّلاعي على صفحة مؤلفاتها في موقع (Good Reads) ، فلم أجد أيّ أثر لكتابها الحماسيّ فيه. كما أنها عمدت لتحوير بعض القصائد وإعادة طبعها، كما فعلت مع (جسمي نخلة تشرب من شط العرب) حين أبدلت مفردة (شط) إلى (بحر). وعادت فنسخت كل ما كتبَت من مربديّات بديوان صدر بعد الغزو بعنوان (برقيات عاجلة إلى وطني).

كما طال المحو حقبة البصرة كلّها من حياتها، وسيأتي في ترجمةٍ لحياتها كُتبت بعد كارثة الغزو، أنّها الشيخة سعاد الصباح، المولودة عام 1942 في الكويت! وأنها درست الابتدائية في (مدرسة الخنساء) الكويتية، في محاولة لطمس دور ابتدائية (حليمة السعديّة) بالبصرة على تعليمها الأوّلي، وإخفاء أثر بساتين الفاو على نشأتها الشعريّة، وطيّ صفحتي الولادة والتكوين عن سفر حياتها.