عكد الراهبات.. غادره أهله وبقيت آثاره والذكريات

1٬485

عبد الجبار العتابي/

من الصعوبة أن تفصل بين (عكد النصارى) و(عكد الراهبات) المحاذي له، مع أن لكل منهما خصوصيته. ويبدو «عكد الراهبات» للناظر زقاقاً واحداً لكنه في الواقع زقاقين أو (دربونتين) متجاورتين، وكان لهذا العكد ذاكرة ما زالت تنبض بالأسماء والحكايات بالرغم من محاولات محوها من خلال محو ملامح المكان وتبديل الرائحة البغدادية التي تفوح من بين الأروقة هناك.

تأريخ ذهبيّ

بين عكدي الراهبات الأول والثاني، ثمة تأريخ يمكن للمارّ من هناك أن يتنفسه، تأريخ موغل في المحبة ويحكي عن شؤون خاصة ببغداد لها طعم المسرات الذي لا يقاوم، ويحاكي محطات من الأسرار البغدادية تكاد تغيب عنها بفعل الاندثارات التي تتعرض لها، بالرغم من إن الاسم الذي ما زال قائماً لوحده يشي بمشاعر تختزنها ذاكرة المكان وإنْ غادره سكانه المسيحيون ولم يبق لهم فيه غير الذكر الطيب، وإنْ تغيرت ملامح المكان وتعطلت سيماؤه عن النموّ والازدهار.

فبين (العكدين / الدربونتين) يحاول شارع الرشيد أن يبتسم قليلاً لأنه يعلم إن هاتين الدربونتين تقفان على ضفافه وتمتدان إلى مسافة بعيدة عنه لكنه يمتلك روحهما، وقد استنسخ العديد من الأشكال التي يتميزان بها، شأنهما شأن المحلات البغدادية القديمة التي أخذ منها شكل مبانيه وجمالياتها، فهما يطلان عليه ونظراتهما تجوب في المساحات القريبة كونه يحتضن الذاهبين والآيبين منهما، لكنهما ما عادا يشاهدان الراهبات اللواتي يتميزن بملابسهن مارات من هناك في طريقهن إلى (مدرسة الراهبات)، ولا تتوقف عندهما السيارات الخاصة (الباصات) التي تقلّ الطالبات وهنّ بصداريهن السود وياقاتهن البيض ويتهادين داخل الزقاق البغدادي الذي كل سكانه من المسيحيين، وحيث البيوت مزدهية بالشناشيل والشبابيك الملوّنة والأبواب الخشبية ذات المطارق الصغيرة الجميلة والطراز البغداديّ الذي يدخل الخشب مادة مهمة في بنائه، وتفوح من مطابخها روائح الأطعمة، ويمكن تخيّل العلاقات القائمة بين أبناء هذا العكد وسواه.

التسمية مستحدثة

لم يكن لتسمية (عكد الراهبات) ذكر في الكتب التي تناولت بغداد في النصف الأول من القرن العشرين، ويبدو أن التسمية شعبية مستحدثة، إما بسبب الراهبات اللواتي يمررن في الزقاق (الدربونة) أو بسبب مدرسة الراهبات ذاتها. وإن «العكد» كان ضمن مساحة (محلة عكد النصارى) التي ذكرت كمحلة مطلع القرن العشرين. ويبدو أن شق شارع الرشيد عام 1916 جعل المنطقة تنتمي إلى محلة (العمار سبع ابكار) فغابت عنها تسمية محلة، كما أن فتح شارع الملكة عالية (شارع الجمهورية) عام 1954 تسبب في هدم أجزاء من عكد الراهبات، ومن ثم قطع اتصاله بالعقود الأخرى. ولم يكن طريقا العكد معبدين بل كانا ترابيين، ولم يكونا مستقيمين كذلك، بل كانا منعرجين، فيما الناس تعتمد على السقّاء في توفير الماء لها، بينما مداخل العكد لها أبواب تقفل ليلاً حين كان الخوف يلازم الناس من اللصوص وسواهم.

أصل المدرسة وتقلباتها

تأريخ المكان الممتد إلى عمق التاريخ البغداديّ له علاقة بالنشأة الأولى لبغداد، لكن الباحث البغدادي حمودي الأنصاري يقول إن المحلة كان اسمها قبل أكثر من 200 عام (محلة كاتب العربية)، وإنها كانت زقاقاً من أزقة (رأس القرية) وكان فيها دير راهبات، ويبدو أن هذا الدير صارت له مدرسة عرفت بـ(مدرسة الدير) فيما بعد. أما (مدرسة الراهبات) التي أخذ العكد منها اسمه فهي (مدرسة راهبات التقدمية المركزية) أو كما كانت تسمى (دير راهبات التَقدِمة المركزي ـ كوليش دي سنترينو) الذي تم بناؤه من قبل الفرنسيين عام 1887. وهذه المدرسة كبيرة وتمتد على مساحة عرض العكدين ولها أربعة أبواب: اثنان مطلان على عكد النصارى واثنان على الجهة الأخرى من عكد الراهبات، لذلك كان للعكد فرعان متجاوران، وفي الذاكرة منها تلك (الصورة الجماعية للطالبات) داخل المدرسة، وهي صورة مدهشة تدل على قيمة المدرسة مكانياً واجتماعياً والتي حافظت على وجودها بالرغم من المشاكل التي حصلت آنذاك مثل الفيضان وانتشار الأمراض التي فتكت بسكان بغداد.

وقد نالت المدرسة شهرة واسعة وإنْ كانت أهلية وليست حكومية لكونها مميزة وفيها تتعلم الطالبات اللغتين الفرنسية والإنكليزية، وتؤكد المصادر أنها لم تكن حكراً على المسيحيين فقط، بل إنها كانت تقبل الطلاب المسلمين واليهود أيضاً، لكنْ بعد مجيء حزب البعث إلى الحكم في عام 1963، عمل على تأميم المدارس الخاصة الأهلية في 22/ آيار عام 1974، فلاقت هذه المدرسة، شأنها شأن المدارس المسيحية الأخرى، صعوبات كبيرة وتراجعت كثيراً، خاصة بعد صدور قرار تحديد نسبة الطلاب المسيحيين لتقبل التعليم المسيحي بنسبة 50%، ثم تمّ تحويل ملاكها إلى وزارة التربية وتبديل اسمها إلى ثانوية «العقيدة» في الباب الشرقي، بالرغم من إن المدارس الأهلية كان لها أثر عظيم على العملية التربوية والتدريسية، وعلى تطوير مستوى التعليم ونوعيته.

زمن الأفول

ومن هنا بدأت التحولات تضرب المدرسة وتطيح بتأريخها فتخلت المدرسة عن طالباتها وأصبحت مجرد بناية خاوية، مجرد مكان يشغل حيزاً. وحينما نزح الكثير من المسيحيين من زاخو مطلع الثمانينات إلى بغداد اسكنتهم الكنيسة في المدرسة قبل أن يتم نقلهم إلى منطقة (الدورة). ويذكر بعض من أهل المنطقة أن الكنيسة قامت ببيع المدرسة عام 1991 وتم هدمها وتحويلها إلى محالّ تجارية ومخازن ومعامل وبذلك اندثرت المدرسة تماماً. واقع الحال للعكد ليس مريحاً، لا للعين التي ترى ولا للقلب الذي يشعر بالأسى إزاء التغييرات التي طرأت عليه، وقد غابت النظافة عنه تماماً وهو المشهود له بالنظافة منذ السبعينات بعد أن هدم العديد من البيوت لتقوم بدلها عمارات صغيرة وقد زحفت اليه المعامل الأهلية للأحذية وخياطة الملابس وصناعة الشمع التي أغلق أغلبيتها بسبب الاستيراد العشوائي بعد عام 2003. ويحاول الآخرون التشبث بالأمل، فالزقاقان مرهقان للنظر إذ كل شيء يبدو مهملاً فيهما، وإذ لا تستطيع السيارات دخول المكان فأن العربات الخشبية التي يجرها الحمالون تجوبه داخلة اليه من جهتي شارعي الرشيد والجمهورية وتقدم خدماتها للمعامل الصغيرة التي ما زالت هناك، بيد أن الكثير من البيوت خربة ومتهالكة وتكاد تسقط في أية لحظة.

طالبات شهيرات

لايمكن مغادرة عكد الراهبات من دون النظر إلى وجوه بعض الطالبات اللواتي صار لهن مستقبل زاهر وشهرة واسعة، فهذه المعمارية زها حديد (1950- 2016)، تلقت تعليمها الابتدائي والثانوي بمدرسة الراهبات الأهلية، والتي قالت عنها في حوار مُسجل لها: «التحقت بمدرسة الراهبات في بغداد، كنت فتاة مسلمة في الدير، وهناك فتيات يهوديات، كنا ملتزمات بالذهاب إلى الكنيسة، والصلاة بها). وتوضح أنها عند عودتها إلى المنزل كانت تسأل والدها، لماذا لا نصلي مثلهم، وما كان من والدها إلا أن أخبرها بأنهم ليسوا مسيحيين، وبالتالي، ليس عليهم الذهاب إلى الكنيسة.

وأضافت: «كان وقتاً مثيراً للاهتمام في بغداد آنذاك. كانت الحرية حاضرة بشكل جميل».
وهذه «بياتريس أوهانسيان» (1927 – 2008) عازفة بيانو عراقية أرمنية، وهي أجمل من عزف على آلة البيانو في العراق، درست في مدرسة الراهبات، حيث كانت هناك بدايتها الأولى في تعلم الموسيقى بدراسة العزف على آلة البيانو، وكانت ترتل وتنشد ضمن فريق الإنشاد التابع للمدرسة. وكانت مدرستها تعتبر الأفضل بين مدارس البنات الأهلية، من حيث المستوى التربوي والعلمي والفني ذلك الوقت.

وهذه الفنانة التشكيلية الكبيرة «حياة جميل حافظ» التي كانت معلمة في مدرسة الراهبات، وبعدها انتقلت للتعليم في مدرسة الموسيقى والباليه، وهذه أيضاً مصممة الأزياء العالمية الفنانة «هناء صادق» التي قضت سنيّ الدراسة في مدرسة الراهبات حيث تعرفت هناك على ثقافات جديدة ودرست اللغة الفرنسية، بعدها أكملت دراسة اللغة الفرنسية في جامعة بغداد كلية اللغات.

وهذه الكاتبة «مارغو كيرتكار» التي ولدت من أب هندي وأم سورية، درست في مدرسة الراهبات التي دخلتها عام 1943، وتقول انها تشبعت بفخر العراقيين بماضيهم وبرغبتهم في التحرر والاستقلال.