لياقات وظيفية

41

جمعة اللامي

“التجربة كالأنوار المثبتة في مؤخرة
السفينة: إنها تضيء الطريق الذي سلكته”
(شاعرفرنسي)

همس أمام المرآة: “سأحوّل هزيمتي إلى نصر.” وعندما كان يقود سيارته الصغيرة، ماراً بالشوارع الضيقة التي شهدت أيام وسنوات هجرته إلى هذه المدينة، قال لنفسه مرة أخرى: “لم يعد هناك ما أخسره، لقد ربحت ما خسره غيري، وما عجز عن تحقيقه من هم أشد مهارة مني.”
ثم تعالى الضجيج في الشارع. أغلق زجاج سيارته الصغيرة المتينة، وانعزل عن السابلة، وأخذ يسترجع ما دار أمس في مكتبته، حين دخل عليه (فرّاشه) الخاص، وطرح أمامه مغلفاً، وقال له: يقول المدير العام، اقرأ.
قرأ (رابح الكسّاب)، وهذا هو اسم صاحبنا، كلمات قليلة في ورقة المدير العام، ثم كاد أن يفقد السيطرة على نفسه. لكنه – لأنه كان يعلم أن أيامه باتت معدودات في وظيفته القديمة – تمالك رباطة جأشه، وانتقل مباشرة إلى حيث يجلس المدير العام.
قال المدير العام: أستاذ رابح، هذه هي طبيعة الأشياء، وأنت عاقل، ولا تزال هناك بداية جديدة لك. ماذا تقول لو حولت بيتك إلى متحف صغير، متحف لآخر كلمات المعزولين عن وظائفهم؟
ضحك رابح الكسّاب، فهو اعتاد أن يضحك في حضرة المدير العام، حتى لو كان المشهد يبعث على الحزن. وكان يضحك أيضاً عندما كان زملاؤه يغادرون مقر (مؤسسة اللقى غير التقليدية) في مدينته. وكان يقول: لو أنهم تعلموا (فن الضحك) لاستمروا في وظائفهم، إلى يوم الممات!
تذكر ما قاله المدير العام: غداً، سنقيم حفلاً لتكريمك.
بعدما أوقف سيارته الصغيرة، عند زاوية قرب (صالة الأعراس الكبرى) في مدينته، حيث يقام حفل تكريمه، لم يجد سوى سيارة واحدة، أقل حداثة من سيارته، هي سيارة (فرّاشه) الخاص. فقال لنفسه، سيأتي الجميع، أنا أعرف هذا جيداً.
استقبله (فرّاشه) الخاص عند باب الصالة وقال له: تفضل “أستاذ”، وضحك.
كان رابح يسبق أي إنسان يقابله بكلمة “أستاذ”، حتى لو كان (فرّاشه) الخاص. وذات يوم، بعد أن وضع الفرّاش أمام عدد من ضيوفه كؤوس المثلجات، بادره رابح الكسّاب بقوله: “شكراً.. أستاذ”، وضجّ الضيوف ضحكاً.
واستمر الفرّاش ضاحكاً في وجه رابح الكسّاب.
مرت ساعة، ولم ير رابح الكسّاب وجهاً من تلك الوجوه التي اعتاد أن يراها في حفلاته وأجوائه الليلية. ثم مرت ساعة أخرى، لكن (صالة الاعراس الكبرى) لا تزال فارغة، إلا من جسده هو، وجسد (فرّاشه) الخاص.
وفي تمام الساعة الثامنة مساءً، توجه الفرّاش الخاص للسيد رابح الكساب نحو مديره السابق، وقال له: أستاذ..؟
قاطعه رابح الكسّاب: تفضل.. أستاذ!
قال الفرّاش: ” نيابة عن المدير العام، وبالأصالة عن نفسي، أرحب بك في (صالة الأعراس الكبرى)، وأتمنى لك حياة جديدة أكثر عطاءً.