(هيغل)..

143

جمعة اللامي/
ينطوي سعدي الحديثي على إمكانيات صوتية ولسانية وجسدية، لكي ينتقل بالموروث الغنائي العراقي الريفي، على وجه التحديد، إلى مستوى الموسيقى ذاتها

ما قيمة حياتك من دون موسيقى؟
“الوجود كله موسيقى”
يتميز الدكتور سعدي الحديثي بميزة الفنان الأولى التي عناها هيغل، رغم أنه، من حيث التوصيف الأكاديمي، اختصاصي في الأدب العربي. أي أنه في أحد اهتماماته يتعامل مع اللغة والموسيقى، اللغة الوحيدة التي لا تندرس. ولا شك في أن هذا الرجل سوف يفتكر كثيراً عندما يردد أحدهم على مسامعه مقولة فردريك نيتشه: حياة بلا موسيقى حياة خاطئة!
قبل أن نضع سعدي الحديثي في قسطه من الحياة والفن، أريد التطرق إلى مقدمتين في سطور قليلة: يقال إن مغنياً عراقياً فطرياً، بلغ به الوجد ذات يوم، وهو يغني، فأخذ يكسر على رأسه إيقاعات الفرقة الشعبية المرافقة له. أما المقدمة الثانية، ففحواها أن مطرباً عراقياً فطرياً، أوصى ولده أن يغني عند رأسه إذا دنت المنيّة، ويستمر في ذلك وهو يُغسّل، ويواصل ذلك وهو عند حافة القبر، ولا يتوقف إلا بعدما يُهال عليه التراب. ولقد فعل ولده ذلك، وهو أحد أبرز مغني العراق المغمورين!
هاتان المقدمتان لهما علاقة بالدكتور سعدي الحديثي، بالقدر الذي يتعلق في تمثله لأصول وجذور الفن الشعبي العراقي بصفة عامة، والغناء بصفة خاصة. فهو انخرط في عملية معرفية متواصلة لجعل الغناء الشعبي العراقي جزءاً من الحياة اليومية لأبناء بلده، والارتقاء به إلى المستوى الذي يجعل منه رديف الشخصية العراقية. ثم أن الحديثي تدخل بـ “جسده” في الأُغنية التي يؤديها، ولم يستخدم صوته فقط. يقول أحدهم: حياة الموسيقى جزء من قلبه. بل إن بتهوفن يقول: الموسيقى أبلغ من أية حكمة. وهذا الفهم هو الذي يجهد سعدي الحديثي نفسه ليحوله الى تقليد راسخ في حياة العراقيين.
لكن ثمة أكثر من عقبة كأداء تمنعه من ذلك، أو تؤجل شوقه هذا، أبرزها حياة اللا استقرار التي تعصف بهذا الرجل الذي عزف عن آداب اللغة الإنجليزية، واختار أن يكون الجسد كله أغنيته. وهناك عقبة محبّبه، إنْ صحّ التعبير، وهي الرفقة الشخصية والفنية التي جمعت ما بين الحديثي والشاعر مظفر النواب. فالشاعر النواب وحيد زمانه في الشعر الشعبي، وفي إنشاد شعره أيضاً. وإذا ما ظهر الحديثي بجانبه، كما حدث في أمسيات عديدة، ينتبه الناس إلى مظفر بالدرجة الأولى، أي أن الحديثي يكون فاصلة بين قصيدة نوابية وأخرى. وهذا وضع غير عادل قطعاً.
ينطوي سعدي الحديثي على إمكانيات صوتية ولسانية وجسدية، لكي يتنقل بالموروث الغنائي العراقي الريفي، على وجه التحديد، إلى مستوى الموسيقى ذاتها. إنه يعيد تثقيف الأغنيات العذراء كلها، فيخلصها من الارتجال والمباشرة والصور السهلة، ليرفقها بالانتشار غير المحدد والتأويل والعبارة المركبة، بحيث تبدو مجموعة أغنيات شعبية من بلدة “حديثة” في الغرب، إلى قرية “السودة” في أهوار العمارة، مروراً بمرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني، ورقص “الأسديات” في الفرات الأوسط، كما لو أنها أوبرا غير عربية بلهجة عراقية.
لقد اكتشف أحد الأكاديميين الأميركان هذا الفهم العبقري الذي ينطوي عليه سعدي الحديثي لآفاق الأغنية الشعبية العراقية، لكنه بقي يتنقل بين دائرة ومؤسسة لا علاقة لهما بالفن. تلك ضريبة كأداء أخرى، في طريق هذا الإنسان المولع بالفن، المنذور لأن يخاطب الجمال في عز الوحشة والوحدة وسلطات “اللّا فن”.