الشاهين ملك السماء

1٬072

يوسف المحسن
تصوير: أحمد العاقولي/
بعد كميات المطر الوافرة التي هطلت على البادية الجنوبية وما لحقها من نموٍ للأعشاب والشجيرات، اكتست مساحات واسعة بالغطاء الأخضر وتحوّلت الى مراعٍ للمربين، ووجهة للمتنزهين في أيام العطل والمناسبات. هواة الصيد بالصقور بدأوا موسمهم وشرعوا بنصب الخيام في البادية.
يقول (رحمن حمودي كاطع)، رئيس جمعية الصيادين ومربي الصقور في محافظة المثنى، إن “الأسابيع والأشهر الباردة هي الفترة المثالية لممارسة الصيد عند (الصكّارين)، ويعني تهم مربي الصقور.” مضيفاً أنّ هذه الهواية التراثية لها وظيفتها الاجتماعية والاقتصادية والسياحية، وهي جزء من الثقافة والموروث الشعبي والتراثي، علاوة على كونها عاملاً مشجعاً للاهتمام بالتنوع الإحيائي والغطاء النباتي.
حمودي، الذي التقيناه أثناء شروعه بتدريب صقر بري، قال إن “هواية صيد الصقور الحرة وترويضها وتدريبها ومن ثم استخدامها في الصيد لا تخلو من الصعوبة والمشقّة، لذلك هي من بين الفعاليات الأكثر جذباً للاهتمام في البادية الجنوبية.” واصفاً حضور الصيادين من محافظات بعيدة، أو من دول الجوار بالنبأ السار والحدث السنوي المنتظر.
ترويض الصقر.. ترويضٌ للصحراء
تدريب الجوارح مهمة ليست بالسهلة، بل هي شاقة تحتاج الى صبر وتحمّل، فمزاج الصقر يشبه مزاج الصحراء، لأنّه ينهل منها بعض طباعه المتقلبة، وأساليب التدريب تختلف من صياد الى آخر، لكن الثابت هو أن الصقر، بعد اصطياده مباشرة، تجري تغطية عينيه بالبرقع الجلدي لكي يهدأ، ويُترك ليسمع الأصوات ويأنس إليها، ثم يرفع البرقع عنه ليعتاد على المحيطين به.
يقدم لنا رئيس الجمعية الشرح قائلاً: “يُدربُ الصقر بـ (الملواح)، وهو خطّاف مربوط بجناحي طائر، وإذا أريد صيد طائر الحباري، يكون الملواح عبارة عن جناحي طائر الحباري، ويلوح به عالياً كي يتابعه الصقر، فإن انقض عليه تُدس له قطعة لحم بين الجناحين، ويكرر الأسلوب لمرتين يومياً طوال فترة التدريب التي قد تصل الى أربعة أسابيع”.
مصدر الإلهام الشعبي
والصقر بأنواعه الستين، ومخالبه الحادة القادرة على الإطاحة بالفريسة، ومنقاره المعقوف، هو من الطيور التي ارتبطت بالموروث والثقافة الشعبيين، فحدّة بصره التي تمكنه من رؤية الفرائس وهو على ارتفاع 300 متر جعلته مضرب الأمثال والحكَم، لهذا يقال “فلان عيونه عيون صقر”، وهو أسرع الطيور على الإطلاق، إذ تصل سرعة طيرانه الى 200 كم في الساعة، وجرى تسجيل سرعة انقضاضه على الفريسة التي تجاوزت 350 كم بالساعة، لذلك يستخدم به المثل للإشارة الى الشجاعة، والمثل الشعبي الرائج “اللي ما يعرف الصقر يشويه”، الذي يقال بحق الشخص الذي لا تُعرف قيمته حتى يُفتقد، والكثير من البلدان والشركات تضع الصقر علامة ورمزاً لها اعتزازاً بصفاته وبما يمتاز به من شموخ وارتقاء.
الأجنحة المرفرفة في الصحراء
صقر الشاهين والصقر الحر هما ما يبحث عنهما الصيادون، إذ يعدّونهما كنز الصحراء، فاصطياد الصقر سالماً وتدجينه وتدريبه واستخدامه في الصيد هو هوايتهم ومتعتهم، إذ يستخدمونه في مرحلة لاحقة في صيد الطيور. يقول (أحمد حمدان الجشعمي)، وهو سكرتير تجمع حماية البيئة والتنوع الإحيائي، إن “البط والأوز البرّي وطيور السمّان والباشق والشقراق والسنونو والحبارى، هي التي يهتم بها الصيادون، أما الطيور الأكثر شهرة فهي القطا، التي تتوافر بخمسة أنواع.” حمدان أضاف في حديثه لـ “مجلة الشبكة” أنّ السنوات الأخيرة سجلت سلوكيات بيئية مقلقة يرتكبها بعض من الصيادين الذين يمارسون الصيد الجائر. داعياً الى تطبيق إجراءات رقابية محكمة للحفاظ على التنوع الإحيائي، في إلزام الصيادين بالحصول على هويات تعريف، مع تحديد فترات ممارسة الصيد والأعداد المسموح بها، مع منع استخدام الأسلحة الآلية، وتفعيل الخطط الخاصة بإقامة محميات طبيعية وتخصيص شرطة بيئية.
يتابع الجشعمي، الذي انتخب رئيساً للمجلس المحلي في ناحية بصيّة الصحراوية: “بعضهم يقومون بكهربة البرك الصحراوية التي تتجمع فيها الطيور، ما يتسبب بقتل المئات منها.” لكنّه استدرك قائلاً إن “هذه السلوكيات المرفوضة تقلقنا نحن كمنظمات ناشطة وتقلق (الصكّارين) أيضاً لأنهم يتضرّرون منها.”
“إن الحفاظ على الصقور محلقة في الأعالي، وحماية الحياة البرية والحيوانات النادرة، يبدأ من تطبيق القانون رقم 17لسنة 2010 وإيقاف عمليات الصيد الجائر، إضافة الى تنفيذ الخطط التي سبق الإعلان عنها بإنشاء محميّات طبيعية وتوسيع دائرة المشاركة المجتمعية في حماية البادية، فالحياة البرية تشبه الزجاج الذي يصعب رأب صدعه فيما لو حصل.”
عبارات حملناها معنا ونحن نقطع طريق العودة الترابي رفقة خيال لصقر طليق ظل عالقاً في أذهاننا الى حيث دخان المدن الكبيرة.