( تِقلايـــــة ) في الجنّة..

1٬061

رئيس التحرير
سرمد عباس الحسيني/
يوسف.. طفل فلسطيني..
لديه من الربيع سبعٌ.. جميل المحيّا..
أبيض الوجه.. أصفر الشعر.. بقصته (الكيرلي)، وبغرّة تداعب عينيه اللتين أتعبهما حصار غزة.. باستهدافٍ هولوكوستي، وقصفٍ بأسلحة محرمة، تمنّى على أمه أن تسد جوع معدته الصغيرة بأي طعام، بعد أن شحّ ما لديهم من مؤونة البيت، بسبب انشغال والده الطبيب منذ مدة في مستشفى المدينة ليل نهار مسعفاً ضحايا الغارات الصهيونية.
وكأي طفلٍ صغير، لا يعرف أو يفرق حقيقة ما يدور حوله بوعي كالكبار.. فللطفل عالمه الملائكي الذي يناجيه أحياناً في خلواته، وهو الأمر الذي لا يعيه الكبار أحياناً.. وقد لا يفهمونه أحياناً أخرى، ليترتب على ذلك وبعده.. صياحٌ وتأنيبٌ على سلوكياتهم وتصرفاتهم يعتبرها غالبية الكبار.. عبثاً، ويعتبرونها هم.. استكشافاً، والفرق بين هذين العالمين كبير جداً.
وتلبية لرغبة (يوسف)، ذهبت والدته إلى بيت جارتها، طالبةً منها (حبتي بندورة)، لتعمل له (تقلاية بندورة)، التي يحبها وقت تجليات براءته، بعد أن أوصته بأن يغلق باب البيت جيداً ريثما تعود لـه بـ (حبتي البندورة).
وبعد السلام والكلام بين الجارتين حول الوضع الكارثي في غزة، وقصف الطائرات الصهيونية وارتقاء مئات الشهداء ما بين مسنّ وامرأة وطفل، و(شو أخبار بيت فلان.. ومين استشهد من بيت فلان.. ومين بقى من بيت فلان.. الخ). حدث انفجار رهيب.. كان على الأرجح قصفاً بطائرة (F35) الحديثة، لتعمّ المكان رائحة البارود والدخان والغبار، وسواد الجو والموقف، ويشهق قلب أم يوسف من حنجرتها هلعاً..
..يُمّه يوسف…. يُمّه يوسف..
ولتبدأ رحلة البحث عن (يوسف) بين الأنقاض.. ومن ثم بين الضحايا الذين اكتظ بهم المستشفى الذي يعمل فيه أبوه الطبيب.. ولا يهم فيها أن يكون شهيداً أو جريحاً أو بقية أشلاء تُعبأ في أكياس الفاكهة (كما شاهدناها عبر الفضائيات).
وبعد طول هلعٍ.. وضيق نفسٍ.. ورعب قلب.. وعناء بحثٍ بين أجساد وأشلاء الضحايا.. جاء (أبو يوسف) محتضناً ابنه، ملفوفاً بقماشة بيضاء (شُحّت هي أيضاً.. كما البندورة).. غاسلاً ما تبقى من جسد (يوسف) بدموع اللوعة والفراق.. وسط ذهول (أم يوسف) التي حاولت انتزاع جسد ابنها من حضن أبيه.. لاحتضانه.. وشمّه.. وارتواء عينيها من وجه (يوسف) الذي بانت من كفنه غرّته الصفراء الموشحة بسمة شقائق النعمان.
تمسّك الأب بجسد ابنه، تمسُّك الغريق المتشبث بقطعة خشب من مركب غارق.. رافضاً مشاركة أمه عطيّة التشبث، ومن ثم كشف وجهه، حرصاً على أن تبقى صورة (يوسف) ذاتها التي عرف بها، لا التي شوهتها طائرات الظلمة.
يئست الأم.. ثم سكنت.. لتهجع بعد ذاك يأساً، وترضخ لجَلادة (أبي يوسف) الذي توسلته بطلب أخير أن يسأل يوسف:
– بدك يا وليدي أعملك تقلاية بندورة؟؟!
ولتكمل (هلوستها) معه برجاء المتوسل المكسور:
– اسألو انت.. بوس إيدك اسألو.. بدّو أعلملو تقلاية النبدورة؟
..يا حبيب أمك انت..
..ياقلب أمّو انت..
..يا روح أمّو اللي راحت..
بدك أعملك التقلاية؟؟
..ولك ااااااااه يا يمة.. جاوبني يا يمّة.. بوس إيدك يا يمّة.
ولتجيب بعد ذاك تكلم نفسها، تكلُّم المذهول:
– هيّة وين إيدك يا يمة.. هية وين إيدك يا يمة..؟؟
حينها فقط.. تراخت جَلادة (أبي يوسف).. بضمها إلى صدره رفقة جثمان ابنهما.. قائلاً لها بابتسامة شارد الذهن..
هامساً في أذنها بهمس الأحبة:
– تعرفي يوسف شو بيوشوشلي أقولك؟؟
بيقولك.. لا.. ما بدّي..
الملايكة بيعملولي التقلاية عندنا هون.. في الجنة.