قصر الإمارة… أول بناء خطّه المسلمون في الكوفة

92

النجف / عامر جليل إبراهيم
رسوم / غزال محمد

يعد قصر الإمارة، الذي يجاور مسجد الكوفة، أحد المعالم الأثرية المهمة في النجف الأشرف، إذ كان أول بناء اختطه المسلمون في الكوفة بعد فتحهم العراق عام (17هـ/638م). وقد شهد القصر كثيراً من الأحداث التاريخية بعد أن تعاقب عليه الأمراء والولاة لإدارة الحكم فيه.

مجلة “الشبكة العراقية” زارت هذا المكان شبه المندرس والمهمل، حيث التقت الدكتور الباحث والمؤرخ (كامل سلمان الجبوري)، رئيس تحرير مجلة (حولية الكوفة)، الذي حدثنا عن هذا المعلم قائلاً:
تشييد القصر
أمر سعد بن أبي وقاص أبا الهيجاء الأسدي بتخطيط مدينة الكوفة، فشيدها وجعل فيها بيت المال، وسكن ناحيته. ثم أن بيت المال نقب عليه نقباً وأُخذ من المال، فكتب سعد ذلك الى عمر، الذي أجابه بأن “انقل المسجد حتى تضعه الى جنب الدار واجعل الدار قبلته، فإن للمسجد أهلاً بالنهار وبالليل، وفيهم حصن لما لهم”، فنقل المسجد وأراغ بنيانه. فقال أحد المعماريين من أهل همدان يدعى (روزبة بن بذرجمهر) “أنا أبنيه لك قصراً فأصلهما ليكونا بنياناً واحداً.” فخط قصر الكوفة على ما خط عليه، أنشأه على طراز قصر كان للأكاسرة في ضواحي الحيرة على مساحته، ولم يسمح به، فوضع المسجد بحيال بيوت الأموال ومنه الى منتهى القصر يمنة عن القبلة، ثم مدَّ به عن يمين ذلك الى رحبة علي بن أبي طالب(ع)، والرحبة قبلته، ثم مدّ به فكانت قبلته الى الرحبة وميمنته القصر، فكان يعرف بقصر سعد، وبقصر الإمارة، وبدار الإمارة، وكان منزلاً خاصاً للخلفاء والملوك والأمراء بعد سعد. فلم يزل على بنائه وإحكامه الى أن هدمه عبد الملك بن مروان عام 71هـ، وسببه أنه جلس ووضع رأس مصعب بن الزبير بين يديه فقال له عبد الملك بن عمير: “يا أمير المؤمنين جلست أنا وعبيد الله بن زياد في هذا المجلس ورأس الإمام الحسين (ع) بين يديه، ثم جلست أنا و المختار بن أبي عبيدة فإذا رأس عبيد الله بن زياد بين يديه، ثم جلست أنا ومصعب هذا فإذا رأس المختار بين يديه، ثم جلست مع أمير المؤمنين فاذا رأس مصعب بين يديه، وانا أعيذ أمير المؤمنين من شر هذا المجلس، فارتعد عبد الملك وقام من فوره وأمر بهدم الطاق الذي على المجلس.
اندثار معالمه
يضيف الدكتور الجبوري: “ذكر المؤرخون أن لقصر الإمارة أبوابا منيعة، ففي رواية أن أبواب دار الإمارة أیام ولاية الحجاج بن يوسف الثقفي كانت منيعة، وما يرجح هذا أن الخوارج حين وثبوا في سنة 76هـ/ 195م، قدم رئيسهم (شبيب بن يزيد الحروري) إلى الكوفة ليلاً وضرب الباب على الحجاج في دار الإمارة وذلك دون أن يتمكن من اقتحامها.”
ويؤكد الدكتور الجبوري: “واصلت مدينة الكوفة دورها التأريخي والحضاري خلال العهد العباسي، وتبوأت مكانة كبيرة من الناحيتين الإدارية والعسكرية، إلى جانب مركزها الثقافي والعلمي، وشهدت في ذلك العهد، أعمالاً عمرانية وتجديدات عديدة إلى أن أصابها الإهمال والدمار في أواخر العهد العباسي، إذ عمّ الخراب مدينة الكوفة عدا مسجدها. وتعرضت دار الإمارة إلى الهدم المتعمد واندثرت معالمها، الذي يعزى بشكل أساس إلى أعمال الهدم التي قام بها بعض من الذين كانوا يعيدون استخدامه في بناء بيوتهم مجدداً، وهو أمر معروف ليس في العراق فحسب، بل في معظم أنحاء الشرق وفي بعض البلدان الأوربية، فضلاً عن العوامل الطبيعية المختلفة والرطوبة.”
بنيت بآجر صنع خصيصاً لها
يستمر الجبوري بالقول: “يذكر الطبري في تاريخه أن دار الإمارة، ومنذ أيام سعد، كانت مبنية بالآجر، وفي هذا السياق يؤكد المنقبون أن أسس هذه الدار وما تبقى من جدراها، قد رصفت بشكل منتظم، وأن آجرها من النوع الجيد وبحجم موحد ومتكامل، وليس هناك أي دليل يشير إلى تباين في حجم الآجر أو نوعية التربة المستخدمة في صنعه، كما أنهم لم يعثروا على قطع تستلفت النظر، مثلومة البنيان، كتلك التي نجدها عادة في الأبنية التي تشيد بآجر منتزع ومنقول من أبنية أقدم، وفي ضوء الدليل الأثري الذي أثبتته التنقيبات، فإن دار الإمارة بنيت بآجر صنع خصيصاً لها، استعمل في واجهات جدرانها والأجزاء المهمة منها.”
ابتكار متطور لأنماط التخطيط
أضاف الجبوري: “اعتمد سعد بن أبي وقاص، تخطيطاً مدروساً مسبقاً في تشييد دار الإمارة، روعيت فيه خصوصية المفاهيم العربية ومتطلبات تلك المرحلة، ونفذ العمل تحت إشراف هندسي دقيق، ينم عن القدرات الخلاقة للمعمار المسلم في ابتكاره تصمیماً معمارياً متسقاً ورصيناً، هذا ما تؤكده نتائج التنقيبات الأثرية، فلو ألقينا نظرة فاحصة على مخطط هذه الدار وما تبقى من معالمها، لرأينا أنه في الوقت الذي أولى المعمار اهتماماً خاصاً بتخطيط الدار، وتوزيع المساحات والمرافق البنائية، الذي يشير إلى ابتكار متطور لأنماط التخطيط عن العمارة العراقية القديمة، فإنه ركز وبعناية فائقة على متانة ومناعة البناء، فجعله محصناً تتوفر فيه متطلبات الدفاع، وقد هدتنا نتائج التنقيبات الأثرية إلى أن دار الإمارة شهدت ثلاث مراحل بنائية، وأنها حافظت على تخطيطها الأصلي في زمن التأسيس، برغم تجديد عمارتها في العهد الأموي، وأعمال الترميم والإضافات الأخرى، ونعتقد أن دار الإمارة كانت قد شيدت ضمن سور داخلي، في أول الأمر، دون أن يكون لها سور خارجي. وهذا ما يستنتج من رواية الطبري، فالسور الخارجي الذي يرجع إلى زمن التأسيس شيد على النحو الذي أشرنا إليه، لزيادة حماية الدار.”
نتائج التنقيب
يختتم الجبوري حديثه بالقول: “كان من نتائج التنقيب الذي جرى في موضع هذا القصر العثور على آثار حريق هائل، وقد أثر هذا الحريق على وجوه الجدران والآجر، وأحال لون البناء الى الأحمر الداكن الشبيه بلون الآجر في بطون الأفران. وتدل الظواهر على أن الحريق حدث في آخر دور من أدوار سكنى هذا القصر، أي في أواخر زمن تبليطه الأخير، وربما كان هذا الحريق هو من الأسباب التي أدت الى إهمال هذا القصر.”