الانزياح والترميز في نصوص الشاعر ألفريد سمعان
عدي العبادي/
كسرت الحداثة الحاجز الكبير بين الشاعر والنص، فقد كان النص يخضع لقوانين صارمة على الشاعر العمل بها كالوزن والقافية والبحر الواحد والمباشرة، كي لا يقولن إنه يهذي، وكان في السابق أي خروج في الشعر يعتبر خرقاً غير مقبول، كما حدث مع أبي العتاهية الذي نظم قصيدة عمودية، لكنه لم يلتزم بوزن معين، فقيل له لقد “خرجت عن الأوزان”، فقال “أنا سبقت الأوزان.”
حين ظهرت الحداثة أعطت الشاعر كل الحرية والتحكم بعمله، الفني وكما يقول مشيل فوكو إن “الحداثة قطيعة معرفية”. ثم جاءت الدادائية، وهي أول حركة ظهرت ما بعد الحداثة، التي اعتبرت أن كل شيء هو فن، أي أنك حين تخلق من العدم حتى الحركات والنقط فإن ذلك يعتبر فناً. لكن مع كل هذه والحداثة والخرق لسقف الإبداع والحريات التي يتمتع بها مبدع اليوم، يظل هناك حنين الى الماضي، ونوع من الرجوع، فبرغم كل الانزياح والحداثة والترميز، كتب كثير من الشعراء اليوم بطريقة المباشرة، وهناك من مزج بين المباشرة والحداثة، ليس في مجموعة شعرية فقط، بل حتى في نص واحد، وهذا ما نجده في مجموعة الشاعر ألفريد سمعان التي حملت عنوان (التعب المسافر)، فقد مزج الشاعر بين الانزياح والمباشرة بطريقة جميلة:
كأنها سرب العصافير التي اصطفت
على بيادر من الكروم
كأنها جدائل تبعثرت
في مشتل العطر تحوم
كأنها قافلة من الثلج
تسللت في غفلة
جذلى عن قيد النجوم
مرت على أهدابنا
تناثرت أصداؤها
حطت على برج المساء
وطوقت أذرعها
بيت القمر
توظيف المعاني
وظف الشاعر الكثير من الصور الجمالية، كالنجوم والقمر والسماء، ويعود كل توظيف لصورة داخلية تكون في مخيلة الشاعر، يترجمها الى كتابة، وكل ما وصلنا من الحضارات السابقة من فنون كانت عبارة عن إرهاصات، فطابع الجمال في شعر الأستاذ ألفريد سمعان هو بوح للداخل ينعكس شعراً كصورة عاكسة لما يعيش البدع ويترجمه:
متعب
تبحث عن صوتك
لا تلقاه
إلا في الخوافي
أو صمت الصحارى
تستل أوراق التعاويذ
وترميها بعيدأ
في ضفاف عربدت فيها
رياح الزمن الراحل
تنأوي الصورة
تنأوي في الحنايا
صرخة هزت
بوادي كربلاء
ودماء خضبت أرض الكرامات
الجوانب الجمالية
استنطق الشاعر الكثير من الصور، كما اشتغل على الضربة الشعرية مع الانزياح والترميز، كي يخلق علاقة بين النص والمتلقي الذي ينتهي اليه الخطاب الشعري، لأن قيمة العمل الحقيقي توصله الى كل الطبقات، أي أن الشاعر يشتغل على المنظومة الذائقة كلها، وهذا يعني ان للشاعر خاصية في عمله.
نعم، هناك علاقة بين المنتج والمبدع، لكنها تنتقل في حال نزول العمل الى الساحة، وطرحه كمادة إبداعية، ويصبح المتلقي والناقد المسؤولين عن العمل ولمس الجوانب الجمالية والبلاغية. يقول طه حسين إن “علاقة النص تنتهي مع الشاعر بعد طرحه.” لكن محمود عباس العقاد يقول إن “العلاقة مستمرة.” ولكي نفهم النص يجب أن نفهم حياة الشاعر، فتوظيف الشاعر الأستاذ ألفريد سمعان لكربلاء كان شيئاً جديداً. قد تكون الفكرة في مخيلته عن هذه المدينة وما حدث فيها من واقعة تاريخية طبعت في مخيلته. وهو في نص ثانٍ من مجموعته (التعب المسافر) يتحدث عن البحر والجمال والمرسى:
مرسى لأشرعة الحروف الخضراء
والنسمات
لأغنية تمادت في الشفاء
وأبحر عبر الفضاءات البعيدة
أصبح وعداً وإصرارأ على الدرب التوجس
والمخاضات العسيرة بالكفاح
تتألق النجمات حين تصارع الظلمات
حين تحتدم الأعاصير المريبة
تزدهر النزوات
يعد هذا الاختلاف والتنوع في نصوص المجموعة قدرية عالية وخيالاً كبيراً، كما أنه يثبت مدى براعة الذات الشاعرية عند الشاعر ألفريد سمعان، وهو صاحب تجربة كبيرة امتدت لسنين طوال، وهناك خزين من الصور المتراكمة، كما يوجد نوع من السيميائية، فالشاعر يدخل كلمات صورية مثل النجمات والأعاصير والبحر، وهذه الدلالات تحيلنا الى دلالة مهمة بأن الشاعر يصف الجمال في داخله.