طنين الذباب وأنين المثقف من نصدق؟

158

محمد غازي الأخرس/

في الرواية الثانية لغائب طعمة فرمان (خمسة أصوات)، يتجادل الأصدقاء الخمسة في البار، مسرحهم الأثير، فيصف سعيد، الذي هو نفسه المؤلف، صديقه حميد بالقول؛ “أنا أعرفه، كلنا نعرفه. بعد السهرة سيدعونا إلى الهيام في الشوارع، وإذا لم يجد ملبياً هام وحده، أو تمشى على شارع أبي نواس مثل شاعر فقد ربة شعره على الشاطئ. شاعر أخرس لست أدري من أين يجد الوقت ليقرأ.”

دأب سعيد على هذا التهكم من رفاقه، كونهم منفصلين عن عالمهم، فحميد “يشفق على غواتيمالا ويسخط على تصرفات باكستان، ويقول إن المثقفين في العراق مصابون بالذبحة الصدرية.
“إلا أنه في الواقع، ما يتحدث عنه سعيد ينطبق عليه أيضاً، فهو الآخر يعترف بجهله وفشله في التواصل مع الناس، فيقول: “أنا لا أعرف شيئاً، كان عليّ اليوم أن أعرف لماذا نختلق المآسي حين نكتب القصص ولا نستمع لمآسي الناس الحقيقية؟ كلنا نريد أن نكتب عنها، بينما نعيش بعيداً عنها. نعب الخمرة وننسج من أحلام يقظتنا غلالات نرى من خلالها الحياة، نغبش من ورائها وجه الواقع ونحارب باللسان فقط ما نعتبره إسرافاً في الخمرة.” تتكرر الفكرة نفسها مرات ومرات، بصيغ مختلفة، ومن زوايا نظر تتنوع بتنوع المعترفين. ليس المقصود فكرة الانعزال عن الحياة والناس والسأم وشعور المثقف بالتأزم الدائم فحسب، بل الازدواج في ممارسة الشيء ونقيضه، ومن ثم العجز عن المضي في التجربة بسبب انعدام الشروط النفسية الملائمة لإنضاجها وتواصلها. وبالنتيجة، يركن المثقف إلى الصمت فجأة، أو الهرب إلى مكان آخر، كما فعل سعيد نفسه في الرواية حيث ينتهي به المطاف مهاجراً
إلى سوريا. بالنسبة للسأم والضجر والانعزال، يختصر غائب طعمة فرمان جيله الخمسيني المحبط بنماذج أبطال (خمسة أصوات) الذين هم عدد من أصدقائه، بينهم القاص عبد الملك نوري والشاعر حسين مردان، فضلاً عن عبد المجيد الونداوي، مدير تحرير صحيفة (الأهالي) وشاب مصرفي يدعى محمد حسين الهنداوي. لقد جسد هؤلاء، ومعهم المؤلف، جيلهم المأزوم، وكانوا عينات اختارها فرمان لشخصية المثقف آنذاك، المثقف الناقم على مجتمعه المتخلف. شخصية تكررت في ظهورها بأقاصيص الخمسينيين والستينيين. بطل سلبي يلوذ بالدهاليز المظلمة، ويتجنب العامة، وغالباً ما يستشعر بأنفاس أشباح تطارده. يقول محسن الموسوي عن القاص محمد روزنامجي مثلاً إنه منذ (عبيد الزمن)، كان يبتدئ “بلحظات السأم والقنوط عند شخوصه، وهي اللحظات التي تعني ضمنا انجماد الزمن. اذ يصبح الحاضر نقطة معتمة أو لطخة مشوهة تنتهي عندها حياة المتحدث وصورته.” لا يرى بطله هذا شيئاً بهيجاً ولا يبصر غير تلك المشكلة التي ساقته إلى ما هو عليه الآن، كارهاً لذاته غريباً بين الآخرين. إنه يشبه انموذج المثقف الخمسيني الذي تتسرب ملامحه في المشهد العام في زمنه، فهو ضجر، متململ، كئيب، مهزوم، حائر في رسم مصيره أو اختيار وجهته.
في الرواية، أثناء الشرب، يستشير حميد أصدقاءه في عرض قدم إليه للانتقال إلى الديوانية ليكون مدير فرع أحد البنوك هناك، فيختلف الأصدقاء بآرائهم ويتجادلون مسربين الأزمة التي يعانون منها جميعاً، مع اختلاف تمثلها من واحد لآخر. أزمة الاغتراب والعزلة عن الحياة ولا جدواها. يقول له عبد الخالق “اذهب، فلعل هناك شيئاً آخر.” فيعارض شريف، (حسين مردان)، قائلاً “إذا ذهبت إلى هناك ستنسى وتموت.” يشجعه عبد الخالق مبرراً ذلك بأنه سيتخلص من جمود الحياة، إلا أن شريفاً يعود للمعارضة بشدة بأن الانتقال إلى مدينة كالديوانية موت قبل الأوان، وبأنه سيكون غريباً هناك، ثم يزعم أن العراق هو بغداد فقط.
لعله من الطريف أن رؤية شريف، أو حسين مردان هذه، ستتكرر في شهادة رائعة كتبها عنه الشاعر رشدي العامل، ونشرها في مجلة (الأقلام) بعنوان (المشرد الذي غزا بغداد)، يقول إن “مردان حين عاد من أوربا قال لأصدقائه ـ تره ماكو شي.. ماكو شي حتى بأوروبا، ماكو غير الوطن.. و.. الضجر!” أما الضجر، فخيل إليه وهو يداهمه في المرقص، فأشار لصديقه ذنون أيوب وهمس في أذنه – ها قد جاء صديقنا القديم.. مرحباً، التفت ذو النون فلم ير أحداً، سأل- من؟ لا أرى أحداً. قال – صديقنا القديم.. ألا تراه.. صديقنا القديم، – ولكن من؟ قال له “الضجر”.
إنه الاشمئزاز ذاته الذي امتلأت به بارات بغداد، حيث الأفندية والمثقفون يلوذون بالخمرة للهرب من رائحة الحياة العطنة، و(رائحة الحياة) عنوان قصة لمحمد روزنامجي أيضاً كان نشرها عام 1950، وفيها يرسم صورة شخصية لأحمد أفندي، بطله الذي هو “نمط دارج بين الكتاب أنفسهم مشحون بالقرف والسأم والاشمئزاز” كما يذكر محسن الموسوي. كان روزنامجي مسكوناً بعوالم الضجر والملل والعدمية، ومن يقرأ قصته التي أصبحت عنواناً لمجموعته الوحيدة، (بشر وأرض وزمن)، يوشك أن يختنق بسبب سوداويتها. في تلك القصة التي نشرت في مجلة (الأديب) عام 1952 يصف صاحبنا بطله بعبارات ترشح عدمية ورثاثة: “إنه يحس بأنه يعيش في قمامة، قمامة كريهة، الذباب يطن ويتراكم، والرائحة النتنة تملأ عليه حياته، يحس بها تنبعث من كل شيء، حتى من نفسه.. من أعماقه. ويحس بالتفاهة، بالغثيان، بالسأم، بالضياع.. إنه يحس أن حياته على الأقل أمست لا تطاق، لا يطيقها هو نفسه، صور قديمة، قديمة إلى حد الغثيان، حركات مكرورة كالآلة وأصوات رتيبة لا تتغير وحضيض من العيش لا يرتفع.”
نعم، هذا هو وضع المثقف في الخمسينيات، ولعل هذا هو وضعه اليوم. إنه يئن من طنين الذباب، أنينه مسموع في البار، وفي المقاهي، وطنين الذباب يلاحقه. ترى من نصدق، الأنين الذي نسمعه أم الطنين الذي يتحدث عنه؟.