الرواية بين السرد والسينما

81

د. فراس الشاروط

تأتي تجربة الكاتب الرائع والسينمائي الفذ (عتيق رحيمي)، وهو يحاول الولوج إلى الصراع الداخلي للنفس البشرية في قلب المجتمع الأفغاني. مع ذلك هل أوفى الإعلام العالمي حق هذا المبدع، الذي ولد في (كابل 1962)، وأصبح لاجئاً في فرنسا عام (1984)؟

يكتب رحيمي باللغتين الفارسية والفرنسية. أتم دراسته وحصل على الدكتوراه في الاتصالات البصرية. في عام 2008 حاز على جائزة (غنكور)، الجائزة الفرنسية الأدبية الأبرز، عن روايته «حجر الصبر»، وجائزة الأدب الفارسي في إيران في 2010 عن روايته (الأرض والرماد).
متتالية القمع
في روايته (ألف منزل للحلم والرعب)نعيش مع (رحيمي) في جسد بطله، وتحت جلده، فيعبر لنا عن كل ما يجول بخاطره في مونولوج وبوح أفغاني بأسلوب الهلوسة، يصوره بعين سينمائية روائية متفردة. رحلة أخرى إلى الجحيم، أكثر رعباً وقساوة من جحيم (دانتي)؟ كابوس صحوة، منازل تاهت بين الحلم والرعب، هلوسات وهذيانات نعيشها مع (فرهاد) في رحلة هروبه وموته، بين أصوات الحاضر والماضي. هروب فرهاد من قوى الأمن الأفغانية في ظل نظام سياسي موال للسوفييت – لسبب لا يدركه – فقد وقع ضحيّة مزحة ابتدعها صديقه، حين قام بتحريف شعار الشيوعيين على ورقة، لتقع هذه الورقة بيد طالب حزبي يقوم بكتابة تقرير ضدهما، ليبدأ رحلة الهروب، ليلقى نفسه فجأة في منزل امرأة تعتني به، وابنها يدعوه (أبي).
يعيش (فرهاد) فترة من الزمن في هذا المنزل الذي يلفّه الغموض والأسى، وفي كل يوم يزداد فضوله نحو تلك المرأة الجريئة وإصرارها على حمايته في بلد محافظ، يعقل أن يكون السبب هو تعويض فراغ تراكم عبر السنين؟ أم مجرد إشباع جنسي؟ أم الحنين الذي يسكنها لزوجها المقتول، فعمدت لحمايته رداً على عجزها عن حماية زوجها آنذاك؟ يجمع فرهاد شتاته ويهرب إلى باكستان، ليبدأ حياة أخرى، حياة بعيدة عن الموت والرصاص وقوى الأمن وقيودهم التي ترصد الأحلام، فهل ينجح؟ أم سيجد نفسه من جديد مطوّقاً بنظام دكتاتوري آخر مشابه لسابقه، لكنه مختلف عنه فقط من حيث رقعته الجغرافية؟ في روايته هذه، يؤكد على متتالية القمع التي أفرزتها الأنظمة الديكتاتورية في تلك الرقعة من العالم، الرازحة تحت سيطرة القوى المهيمنة وجبروتها العنيف.
خنجر صغير
(حجر الصبر) هي الرواية الاشهر في قاموس كاتبها، أصدرها عام 2008، وحازت على جائزة (الغنكور) الفرنسية في نفس العام. وفي عام 2013 تحولت إلى فيلم سينمائي من إخراج رحيمي نفسه وبطولة الممثلة الايرانية (غوشفيلده فرهاني).
تدور أحداث الرواية في غرفة طينية صغيرة، عُلّق على أحد جدرانها خنجر صغير سيكون الحكم في نهاية القصة، وفي صدرها نافذة مفتوحة على عالم مليء بصخب المجاهدين المقتتلين على السلطة. داخل الغرفة جسد هامد غارق في غيبوبة لرجل مصاب، وامرأة شابّة ستكون الصوت الوحيد المتكلم في هذه القصة. هذا هو جوهر الرواية، تسليط الضوء على وضع المرأة في المجتمع الأفغاني بشكل خاص، والمجتمعات النامية بشكل عام، إذ تتحوّل المرأة، بشكل أو بآخر، إلى أداة لإشباع الرغبات دون إقامة أي اعتبار لكيانها وشخصها واحتياجاتها، فضلاً عن التطرّق إلى ظواهر أخرى رديفة، كالكبت الجنسي والشذوذ، وحتى التطرق إلى ظاهرة اللجوء لبيوت الدعارة كوسيلة للإنجاب في وقت لا يجوز فيه هدم التابو.
الرواية بمجملها بوح تلقيه المرأة على مسامع زوجها الغافي، لتكسر وحدتها ووحدته، تحكي له مشاعرها تجاهه، تلومه على سلوكه الوحشي، وهو كحجر الصبر الذي حكت عنه الأسطورة الأفغانية، يصغي لها ويمتصّ كلماتها إلى أن تصل إلى البوح الأخير، البوح الذي فجّر صمته وأنهى القصة. رحيمي مدهش “كيف يستطيع أن يتقمّص دور أنثى فيتكلّم بأسلوبها، ويعبّر بمشاعرها، أنثى اعتادت أن تكون ملهاة بيد زوجها وفق أهوائه ورغباته؟”
أحلام اليقظة
(أرض ورماد) صدرت هذه الرواية سنة 2000 وتحولت إلى فيلم سينمائي سنة 2004 من إخراج عتيق رحيمي نفسه. عندما تقرأ هذه الرواية تشعر وكأنك تشاهد فيلماً سينمائياً بكلّ أبعاده، من حيث البيئة والأصوات والألوان والحوارات وغيرها. من أوّل مشهدٍ في هذه الرواية حتى آخر مشهد فيها، سيشعرك رحيمي بأنّها سيرة للحزن والألم بمختلف أشكاله وعذاباته، بشكلٍ مباشر أم غير مباشر. رحلة للمّ الشمل من جديد، حاجة بشرية تدفعنا للالتحام بعدما عرّانا الموت من تماسكنا. الحكاية هي رحلة الجد العجوز (داستاغوير) التي مشاها وصولاً إلى حيث يعمل ابنه ليخبره بالفاجعة التي سببتها الغارة السوفييتية وقتلت جميع أفراد العائلة، ماعدا (ياسين)، الحفيد الصغير الذي سرقت منه القنبلة سمعه، وسرقت معه أصوات الأشياء من حوله. نعيش مع (داستاغوير) العديد من المواقف، والتخيّلات، وأحلام اليقظة، لنصل معه أخيراً عند ابنه (مراد)، لكن لهفة اللقاء، وحرارة العناق المتبادل، والرثاء المشترك على عائلة متفحّمة تدفن نفسها بنفسها، والشعور بالأمان والانتماء من جديد، كلها أمور لن تحدث.
إنه ألم الاغتراب، والحرب، والموت، وألم اللقاء، أم هو ألم المجهول؟ يأخذنا رحيمي إلى حالة الاغتراب التي يعيشها الشاب الأفغاني، عن تحوله لضحية قوتين متصارعتين.
بذور الذنب
كلنا مع (رسول)، أول ما يتبادر إلى الذهن هو (راسكولينيكوف)، بطل رواية (فيدور ديستويفسكي) الأخاذة (الجريمة والعقاب)، تماهٍ ومحاكاة بين البطلين، في روايته (ملعون ديستويفسكي) يدخل (رسول) في حالة صراع ليثبت لنفسه ولغيره أهمية فعلته، فهو لا يبغي سوى أن يعطي لجريمته معنىً حقيقياً ذا هدفٍ سامٍ، لا لمجرّد أن تكون في سياقات القتل الفوضوية المتخفية وراء اعتقادات دينيّة واجتماعيّة بالية، بل لتكون الدّافع وراء محاكمة مجرمي الحرب جميعهم ووضعهم أمام المساءلة والمحاكمة، ربما لا تهم رسول في نهاية المطاف كيفية محاكمته، بل لماذا يحاكم؟ هو فقط يريد اقتلاع تلك (الجمرة) المغروزة في قلبه، المتولدة عن مدى شعوره بالذنب تجاه فعل القتل. هو فقط يريد أن يُحاكم لينبّه أبناء بلده كم أن القتل فعل مستنكر وبغيض وزرع بذور الذنب في نفس كل قاتل. إنها رواية عن الذين لا يشعرون بالذنب تجاه التاريخ الدموي للبلدان التي ترزح تحت طائلة الحروب، ليس فيما خلفته من آثار على السياق الاجتماعي أو النفسي فقط، بل أيضاً على السياق الوطني.