الموسيقار فتح الله أحمد: وشاية كادت توصلني الى حبل المشنقة

4٬836

حيدر النعيمي /

اسم لامع في عالم الفن وطاقة فنية مبهرة، ملأ العالم العربي بمتعة القيادة لفرقة كاظم الساهر والتوزيع لأهم أعماله الكبيرة مثل أنا وليلى وزيديني عشقا وغيرها العشرات.

إنه الدكتور فتح الله أحمد الذي نراه اليوم منعزلاً معتكفاً في دولة الإمارات مبتعداً عن الاختلاط، لكنه مازال بنفس الهمّة في العمل، وان بصمت.
اشتقنا له ولظهورة ولأعماله الجميلة. عن هذا وعن حنيته لبغداد ومدينته كركوك ومعهد الدراسات الموسيقية الذي كان يوماً عميداً له، كسرنا هدوءه في حوار مجلة “الشبكة العراقية” معه:

أسباب الغياب

* غائب عن الظهور.. لماذا؟

– عندما يكون الفرد مدللاً من أبويه وأهله، وفجأةً يموت الأب وتلحقه الأم والأهل يغادرون كلٌ إلى ملاقاة مصيره، وتُغلق أبواب (بيت العيلة)، كما يقال، وفي الوقت الذي هو بحاجة ماسة إليهم، فماذا تنتظر من هذا المسكين الذي أصبح يلاقي مصيره لوحده ويبدأ حياته في أرضٍ ليست بأرضه وأناس لا يرى فيهم حناناً وطيبة واهتمام أهله وأحبته، فماذا يصيب هذا المسكين سوى الانطواء على نفسه والاستسلام للأمر الواقع ..أنا موجود، لكنني غير متواجد !!

* هل سرقت منك الغربة الكثير؟

– نعم، الغربة اللعينة سرقت مني كل ما عندي !!… كياني، وطني، أهلي، ذكرياتي، حبيبتي وأولادي واملاكي وأحلامي وووو كل شيء، لعن الله الغربة .

* ماذا تعني لك مدينة كركوك ومتى كانت آخر زيارة لها؟

– لم أرَ كركوك لأربعة عشر عاماً، لكنها ليست بعيدة عني، إنها في أعماق قلبي، إنها حلمي وافتخاري، أشعر بأنني لا شيء من دونها، لذا كتبت ولحنت وغنيت لها كثيراً.
فبعد أربعة عشر عاماً زرتها ليومين فقط بسبب رحيل ابن أخي الغالي وزرت محلتي (بيريادي) وبيتنا القديم ومزار أهلي وزرت الجبهة التركمانية التي لها مكانة خاصة أفتخر وأعتز بها .

* كيف تقيم مرحلتك مع (الفرقة السمفونية الوطنية العراقية) وهل كانت عالمك المفضل حينها؟

– الفرقة السيمفونية كانت حلماً لكل منا في مرحلة الدراسة، كنا نحضر كونيسيرتات الفرقة في قاعة الخلد حينها ونخرج متحمسين للتدريب ١٢ ساعة يومياً لغرض نيل شرف الانضمام إليها، وفي عام ١٩٧٧ انضممت إلى الفرقة السيمفونية العراقية كعازف على آلة الفيولونسيل (التشيللو)، يمكن أنها كانت معنى السعادة الحقيقية التي لم أشعر به للحين .
التوزيع الموسيقي

* دخولك الإذاعة والتلفزيون سنة 1973 واعتمادك مطرباً وملحناً كيف تم وأنت تجابه عمالقة الطرب آنذاك ولجنة اختبار مرعبة؟

– قبل دخولي الإذاعة كنت عضواً في الفرقة القومية التركمانية التي لها الفضل الكبير في مسيرتي الفنية، وسجلنا أعمالاً غنائية في تلفزيون كركوك منذ عام ١٩٧٠ حينها كان عمري ١٣ عاماً وكنت أجيد العزف على عدة آلات وقراءة النوتة الموسيقية، وكنت أتحلّى بثقافة موسيقية جيدة بالرغم من صغر سني .
بتأريخ ٢٣ / ٧ / ١٩٧٣ والذي يصادف عيد ميلادي واجهت لجنة الاختبار المكونة من:
الأساتذة يحيى حمدي، وناظم نعيم، ووديع خوندة، وأحمد الخليل، ومحمد جواد أموري، وفؤاد عثمان، و علي مردان. ومع أنهم أساتذة كبار لكنني لم أفاجأ ولم أرتبك إطلاقاً، عزفت وغنيت لهم أغنية (آلتون كمر) من كلمات الشاعر جمال شن وألحاني، وفوجئوا بأدائي وعزفي وأسلوب اللحن، فقررت اللجنة بالإجماع تسجيل الأغنية مباشرةً. وفي عام ١٩٧٧ أصبحت رئيساً للفرقة الموسيقية في الإذاعة وبدأت مسيرتي الشاقة .

* تعد اول عراقي يؤسس التوزيع الموسيقي للأغنية على مستوى العراق.. من اين جاءت لك فكرة التوزيع؟

– نعم، لقد كانت هناك محاولات بسيطة من قبل البعض في التوزيع الموسيقي لكنني جعلته مهنة وعنصراً ثابتاً يضاف إلى عناصر الأغنية الثلاثة (الشاعر والملحن والمطرب). حينها كانت الأغنية فقيرة والفرقة الموسيقية أغلبها لم يكن فيها من يجيد قراءة النوتة الموسيقية بالرغم من انهم كانوا عازفين جيدين، وبعد أن جمعنا الشباب من المعهد شكلنا فرقة خاصة بنا، خاصة بعد ظهور الأستوديوهات الخاصة للإنتاج الموسيقي خارج نطاق الإذاعة، أصبحت الحاجة إلى إثراء الجانب الجمالي للأغنية بإضافة التوزيع الموسيقي لها.
حسن حسني وكاظم الساهر!!

* مازال غناء تايتل مسلسل “الأماني الضالة” عام 1988 والتي غنيتها بصوتك في ذاكرة الناس لماذا اخترت هذا العمل بالذات؟

– عند ذكرنا لمسلسل (الأماني الضالة) لابد لنا أن نذكر الفنان الجميل المخرج حسن حسني، الذي كان وما يزال مجدداً وله رؤى خاصة به في الدراما والتمثيل، كنا نسكن معاً في نفس العمارة، أعجبت به وأعجب بي واختارني لعمل التايتل والموسيقى التصويرية للمسلسل، وزودني بالنص لتايتل البداية والنهاية للشاعر الجميل (حسن الخزاعي) وأنا كنت في غاية الحماس للعمل، وبعد التلحين والتسجيل طلب مني الفنان (كاظم الساهر) أن يغنيهما مقابل ما أطلبه دون نقاش وأنا صراحةً وافقت، في يوم تركيب الصوت للفنان (كاظم الساهر) دخل حسن حسني للأستوديو و ( تَعَفرَت !!! ) قال لي : نحن اتفقنا أن تغنيها بصوتك لذلك خلاص أنا لغيت الموضوع ما أريد وخرج وهو زعلان .
فأنا بقيت محرجاً ماذا أفعل؟ فلم يكن هناك شيء غير قول الحقيقة، فتقبله أبو وسام بروح رياضية وغادر الأستوديو ودخلت أنا وغنيتهما بصوتي.
أتذكر مساعدة المخرج، نسيت اسمها، وبعض من العاملين بكوا عند سماعهم (مد جناحك ياهوى) و (صرخة مجنونة وحلم..) وأنا قلت ياللا .. وانضممت إليهم٠

* عينت عميداً لمعهد الدراسات النغمية في بغداد سنة 1999 وتخرج على يديك الكثير من الفنانين والموسيقيين، اليوم نراه شبه مهجور لماذا برأيك؟

– غادرت العراق متجهاً إلى الأردن للتدريس في جامعة (اليرموك بأربد) ومكثت عاماً واحداً فقط ، ثم رافقت الفنان (كاظم الساهر) في جميع حفلاته وسفراته، وشكلنا ثلاثياً رائعاً مكوناً من (كاظم و كريم العراقي وأنا) وكانت الروح السائدة بيننا هي إثبات هويتنا العراقية، وتحمل مأساة شعبنا والعمل الجاد لاختراق الوسط الفني بالرغم من العوائق التي كانت تواجهنا كعراقيين، لكننا صمدنا وبدأت تظهر ثمرات جهودنا .

خلال السنوات التسع تمكنت من إكمال دراستي العليا وتحقيق الحلم الذي وعدته لنفسي منذ صغري، بعدها قررت ترك عمل القيادة الموسيقية وكثرة الأسفار مع كاظم، وكان شعوري دائماً بأن بلدي (العراق) أولى بخبرتي، لذا قبلت بتكليفي لأكون عميداً لمعهد الدراسات الموسيقية، وعند تسلمي إدارة المعهد كان الحال مزرياً، فقررت أن أعمل على الارتقاء بهذا المعهد وجعله لا يقل مستوىً عن أي معهد في العالم.

عملت الكثير وحوربت من قبل الكثير ووشاية كادت توصلني إلى حبل المشنقة بتهمة تخريب الموسيقى العراقية، ولم ينتبني الخوف وما تراجعت، أضفت بعض الآلات التي كانت محرمة في المعهد مثل :البيانو والتشيللو و الكونترباص والفيولا والفايولين والفلوت و دراسة علوم النظريات والتأليف الموسيقي وعلم الهارموني، الأمر الذي أدى إلى استياء بعض المدرسين الذين كانوا أصلاً لا يصلحون للتدريس، وبعكسهم كان الطلبة فرحين وشعروا بأنهم بدأوا يدرسون بجد، ومن خلال المتابعة المستمرة واستقطاب أصدقائي من الأساتذة الكفوئين تمكنا من عمل انقلاب في المعهد، وأنا بدوري ومن خلال علاقاتي الخاصة حصلت على الموافقة من رئاسة الجمهورية عام (٢٠٠٠) لتحويل المعهد إلى كلية وساندني من ساندني وعارضني من تضررت مصالحه الشخصية، وفي تأريخ (٢٤ / ٤ / ٢٠٠٢) تعرضت إلى جلطة في الدماغ فغادرت العراق بتأريخ (٢٠ / ٧ / ٢٠٠٢) متجهاُ إلى القاهرة ومن ثم إلى دبي دون عودة .

لا أعرف شيئاً عن المعهد لكن بعض من طلبتي يخبرونني بالمأساة التي حلت به مع الأسف .

ملحمة كلكامش

* أهم محطاتك هي أعمالك مع كاظم الساهر.. هل صحيح أنك كنت تشارك في ألحان أعماله الكبيرة مثل مدرسة الحب؟ ولماذا غبت عن التعامل معه؟ و اين أصبحت ملحمة كلكامش؟

– بدون شك هناك بصمات واضحة لي في كل أعمال الساهر التي قمت بتوزيعها والسبب هو حبي وإخلاصي لفني والشعور بالمسؤولية الملقاة على عاتقي كموسيقي أكاديمي .

الموزع الموسيقي الحقيقي، وليس الموزع بالمفهوم المعاصر ذي الصبغة التجارية، حسب رأيي ينبغي أن يضيف شيئاً من الجمالية على العمل، فأنا هكذا لا أحب أن أعمل بشكل سطحي لذلك أحمد الله بأن جميع أعمالي تلقى رضا الناس واستحسانهم .

أما عن ملحمة (كلكامش)، أنا أكملت أغلب لوحاتها، وسمعت بأن كاظم الساهر يرمي الكرة في ملعبي، ولكن العكس هو الصحيح إذا كان متحمساً لتنفيذها فأنا المستجيب، لكنني أعتقد انها أصبحت في ذكريات الماضي لتكلفة تنفيذها .

* ماهو جديد فتح الله احمد للساحة الفنية؟

-سوف يصدر لي كتاب عن أصول تدريب الصوت باللغتين العربية والتركية ، وقمت بتأليف ثلاث سيمفونيات، اثنتان منها للإمارات وأما الثالثة فهي عن حبيبتي (كركوك)، والنشاطات مستمرة والحمد لله.

* هل هناك نية لزيارة بغداد قريباً؟

– العراق هو وطني وملاذي الآمن وهويتي التي لم أرض اكتساب غيرها أبداً، وبالرغم من وجود فرص عديدة لكنني ولدت عراقياً وأعيش عراقياً وسأموت عراقياً بإذنه تعالى، وإن كنت لم أزر بغداد منذ (١٦) عاماً لكن مصيري هو أن أُحمَل على الأكتاف لأنعمَ بمثواي الأخير، إن أراد الله .