جدلية الهجر بين المسرح والجمهور..

147

محسن إبراهيم/

حين أطلق شكسبير مقولته الشهيرة (أعطني مسرحاً وخبزاً أعطيك مجتمعاً عظيماً)، فإنه من المؤكد كان يعي أن للفن طاقة إيجابية تعيد بناء شخصية الفرد، ما يجعله يتصف بكل الصفات الحميدة، وتكرس في داخله القيم النبيلة لبناء مجتمع ينبذ كل ماهو مسيء.

منذ ظهور الشكلين الرئيسين للمسرح: الملهاة والمأساة، عرف الإنسان أن المسرح يعتمد على مجموعة من الناس يقومون بتقديم فكرة ما في إطار فني لمجموعة أخرى من الناس، سواء داخل قاعة عرض أو في الهواء الطلق، الهدف هو تقديم عمل فني يتفاعل معه الجمهور.
في الآونة الأخيرة، لوحظت قلة أعداد الجمهور المتردد على دور العروض المسرحية، وعدم الرغبة في متابعة الأعمال. ومع كل المبررات، يبقى السؤال مطروحاً حتى تتفكك رموز هذا الطلسم المسرحي، وحتى يجيب المسرح العراقي، متمثلاً بسنواته الطوال، على السؤال الأهم: (أين ذهب جمهور المسرح)؟!
بث الثقافة والجمال
الفنان المسرحي رائد محسن تحدث فقال: إن “المسرح الذي لا يقدم شيئاً للمجتمع يحكم على نفسه بالتدهور والموت، وأعتقد أن هناك جمهوراً مسرحياً ممتازاً، لكن الخلل يكمن في التخطيط والاستمرارية في تقديم العروض طيلة السنة، الجمهور موجود، لكن العروض قليلة جداً، والدليل أننا عند إقامة أي مهرجان مسرحي في العراق نرى المشاهد العراقي حاضراً بقوة في كل العروض. لاشك في أن واحدة من رسائل المسرح ووظيفته بث الثقافة والجمال والذوق العام في المجتمع، ورغم المآسي الكبيرة التي مر بها مجتمعنا العراقي، من حروب إلى حصار إلى القتل بوسائل مختلفة، التي انعكست على غالبية عروضنا، لكن تبقى مهمة المثقف والفنان أن يمنح بارقة أمل وبعض التفاؤل عند المشاهد، لأنه ليس من المنطقي أن يأتي المتلقي لمشاهدة العرض ونقوم بجلده ونخرجه وهو محمل بطاقة سلبية، وقد حدد أرسطو منذ القدم مواصفات العرض الذي يتوزع بين ثلاث أساسيات هي: ممتع وجميل ومؤثر.”
جدلية الهجر
أما المخرج والممثل المسرحي حيدر منعثر فقال: إن “جدلية من هجر الآخر تحتاج إلى حديث طويل، لكن دعني أقول لك باختصار إن المسرح يتحمل النسبة الأكبر من هذا العزوف، إذ إن المسرحي العراقي الأكاديمي ظل مصراً ومتمسكاً بالدرس الأكاديمي، وبقي يقدم المسرحيات بطلاسمها، متعالياً عن فكر ومدركات المتلقي العراقي البسيط، وبالتالي عزف هذا الجمهور عن حضور هذه المسرحيات. هذا الاستعلاء الذي مارسه المسرحي العراقي الأكاديمي على الجمهور خلق بوناً شاسعاً بين خطاب هذا المسرحي وبين ما يحتاجه الجمهور. ومن خلال هذه الفجوة دخل المسرح الرديء الذي لا يحترم ذائقة الجمهور، مستغلاً هذه الفجوة، فبتنا نشاهد مسرحيات بذيئة بلا ضوابط، وبلا ذوق. كان على المسرح أن ينتبه إلى خطورة المهمة، ويحاول أن يقرب المسافة بينه وبين الجمهور دون استعلاء ودون أن ينحصر التفكير في المهرجانات والجوائز فقط، لأن جائزة المسرح منذ القدم هي الجمهور.
مخطط ستراتيجي
الفنانة والأكاديمية سهى سالم قالت: “المسرح بحاجة إلى نظام ومؤسسة منظمة لوضع مخطط ستراتيجي للأعمال المسرحية، وما ستقوم به هذه المؤسسة من عمل، لمواجهة العمل العشوائي الذي بات يشمل جميع الأعمال، تلفزيونية كانت أو مسرحية، وهذا غير صحيح، إذ إننا جربنا العمل المنظم وغير المنظم، حين تكون هناك قنوات فضائية وعروض مسرحية عشوائية. وكما قلت، فإن هذا غير صحيح، لأننا لا نعلم ما سيظهر على شاشة التلفاز. ولو كانت هناك مؤسسة أو لجنة تكون الحد الفاصل قبل ظهور العمل، إن كان تلفزيونياً أو مسرحياً، وتهذب العمل قبل عرضه على المشاهدين، لكان هناك شأن آخر، ولكانت قاعات المسرح مكتظة بعشاقه، بعيداً عن العزوف عن حضور الأعمال المسرحية.”
منظومة مجتمعية
فيما أردف الكاتب والمخرج منير راضي بالقول:
“المسرح في الواقع العراقي له تأثير كبير في بناء المنظومة المجتمعية الثقافية، فعلى مدى أكثر من قرن من الزمن كان له دور واضح في بناء المشهد الثقافي التوعوي، وقد كان تقبل الفرد العراقي للمشهد المسرحي بالغ الأهمية، لأنه كان يعد المتنفس الكبير لهمومه وقضاياه الإنسانية، و كانت له أرضية واضحة بالتأثير في بناء الإنسان والتطلع إلى الآفاق الخارجية وتأثيراتها في قضايا مصيرية، كالبحث عن الحرية الفكرية، جاء المسرح العراقي في غالبية أعماله معتمداً على لغة الترميز والتشفير، كما حصل قبل السقوط، وكانت أسبابه واضحة للعيان، التي تتعلق بالواقع السياسي وما يحمله من أفق المجهول في ذاك الوقت لعموم الشعب، الذي عاش عقوداً من القهر والاستلاب والتهميش والقمع والجوع. أما الآن فالمسرح العراقي أبوابه مفتوحة على مصاريعها كي يقوم بدور الرقيب والموجه في بناء شخصية الفرد وعلاقاته في العالم الجديد الذي يحمل بين ثناياه الكثير من المحن والتقلبات، وأنا أؤكد على أن المسرح العراقي قادر أن يلعب الآن دوره الكبير في تحديد منظومة المجتمع من الناحيتين الإنسانية والثورية في آن واحد.