حكاية (درندش) ورحلته سجونٌ هندية وهويات مزورة للخلاص من الديكتاتورية!

218

علي الشيخ داغر/

تصوير / محمد ديجان/
ما الذي حصل؟ (شنو اللّي صار)؟ بهذا السؤال بدأت حكاية (درندش) على منتدى المسرح، في عرض كان مزيجاً بين المونودراما، والستاند كوميدي، أو يمكننا عدّه عرضاً لـ (حكواتي) جاء يقصّ علينا ما جرى له، ما جرى لأجيال خسرت حياتها ومستقبلها بسبب ديكتاتور أحمق، جرّ البلاد إلى أتون حروب متتالية ومجاعات مستمرة، طاغية أحال الوطن إلى مقبرة جماعية وسجن كبير، وفيه منح سلطته إلى أرذل حزب دموي حكم العراق بالجوع والدم والنار.
سعيد المصري
هكذا يمكننا تلخيص الحكاية، التي بدأها بطلها بذلك السؤال: (ما الذي حصل)؟ ماذا سنجني من أن تصبح محافظاتنا تسع عشرة محافظة بعد أن كانت ثماني عشرة فقط؟ إشارة إلى احتلال الكويت عام 1990.
لندخل بعدها في متن رحلة قادت فناناً كان من الأوائل على دفعته في كلية الفنون الجميلة عام 1991، ليختار بين الالتحاق بالجيش أو الهروب منه من أجل توفير حياة كريمة لأربع عائلات، أمه وزوجات إخوته الثلاثة وأطفالهم، إخوته الذين سيقوا إلى الحرب قبله! فاختار (الهروب) والمجازفة بحياته والبقاء في بغداد، لكن بهوية واسم شخص مصري (سعيد المصري)، البائع في سوق الشورجة ببغداد وأسواق المحافظات، ليشهد في واحد من مشاويره إلى محافظة العمارة، انتفاضة آذار الخالدة عام 1991، فاختار الانضمام إليها. لكن خوفه على العائلات التي تركها في بيته، اضطره للعودة إلى بغداد ليجد نفسه محاصراً في الطريق بين قوات الطاغية بجميع عناوينها، وبين العائلات التي اقتيدت إلى الصحراء بعد هروبهم من محافظة العمارة، لم تنجح محاولاته في إقناع زمرة الديكتاتور بأنه جندي هارب بسبب الانتفاضة، فيجري اعتقاله بعد أن شهد بعينيه إعدامات جماعية للمدنيين من نساء ورجال وشيوخ، بمساعدة ملثمين كانوا يشيرون بأصابعهم النتنة نحوهم ليقتلوا بدم بارد.
إعدامات جماعية
اقتيد (درندش) إلى سجن في بغداد، واستمرت مشاهد الموت من خلال الإعدامات التي مورست ضد نزلاء السجن، التي كانوا يجبرون على مشاهدتها، ليجري بعدها تسفيره إلى العمارة باعتباره هارباً من جيش لم يكن فيه أبداً، لكنه حال وصوله إلى العمارة ينجو بمساعدة صديق وجار قديم. يصل بعدها إلى بغداد لتبدأ مأساته من جديد، إذ كيف يعيش مرة أخرى وهو الهارب من الجيش؟ لذلك يتقمص شخصية جديدة، ويعيش بهوية أسير عراقي مزورة، يعاني من لوثة عقلية، ليعمل في السوق العربي حتى مغادرته العراق بجواز مزور، ولكن هل انتهت محنته بعد وصوله إلى عمان؟
سجن وساحر هندي!
كان الوصول إلى بلد آخر، لحظة مفصلية في حياة أي عراقي في زمن الطاغية، ولكن في بلد يسرح فيه ويمرح أزلام الطاغية، عادت حياته في خطر، فيضطر للهرب إلى اليمن، لكن الملاحقة والمتابعة لم تنته، فيغادرها إلى قطر، ثم إلى الهند، الهند التي يعتقل فيها بسجن شعبي بعد محاولته مغادرتها بجواز إسباني، ليعيش فيه أحلك أيام حياته، جوع وحرمان وزنزانات انفرادية، وتهديد بإعادته وتسليمه إلى السلطات العراقية، لولا معجزة قد لا تحدث إلا في القصص الخيالية، حدثت بعد أن تعرف على رجل إفريقي يتحدث العربية والإنكليزية قليلاً، ساعده في إيصال صوته إلى الأمم المتحدة، التي نجحت في الوصول إليه ومنحته إقامة مؤقتة حتى تسفيره إلى موطنه الجديد، كندا.
لم تنته حكاية درندرش بعد، ففي الوقت الذي كان ينتظر حسم قضيته في الهند بعد خروجه من سجنها، لم يجد عملاً سوى أن يكون ساحراً! تصوروا معي، عراقي يعمل ساحراً في بلد السحر، الهند، ليتقمص شخصية هندي سيخي، يساعد السائحين العرب ممن يتوهمون بأن الجن قد تلبسهم، وهكذا يعيش مرة جديدة بهوية جديدة.. هندي ساحر!
عروض مسرحية
أكثر من عقد عاشه درندش وهو يحاول الخلاص من الموت للوصول إلى سواحل الحرية، أكثر من عقد اختار فيه المعاناة والتشرد والسجن لكيلا يتحول إلى قاتل وسلاح مصوب نحو أبناء جلدته في العراق، أكثر من عقد عاشه باغتراب تام وبهويات مختلفة ليحافظ على بياض وجهه وثوبه، أكثر من عقد، لكنه على الرغم من آلامه لم يتخلّ عن الفنان القابع في أعماقه، فطوال هذه السنوات، وفي كل البلدان التي زارها مضطراً، مارس العمل المسرحي وحورب آنذاك من قبل رجال السفارات العراقية فيها.
عودة إلى الديار
هل انتهت حكايته بعد عودته؟ إنها بالتأكيد لم تنته، صحيح أنه حصل أخيراً على الطمأنينة، لكن هاجس العودة إلى وطنه العراق مازال قائماً، وبالأخص بعد سقوط الديكتاتورية. ليعود عام 2013 كمسرحي مغترب في مهرجان بغداد للمسرح، وما إن وصل حتى تيقن من عدم قدرته على مغادرة بلده مرة ثانية، هو الحالم بالمسرح، المحب للحياة، لينخرط في أعمال مسرحية ودرامية كثيرة، آخرها حكايته هذه، حكايته التي انتهت بإعلانه رغبته بالهجرة مرة أخرى، بعد أن تيقن بأن هذي البلاد التي أصبح النفوذ فيها للـ (الفاشينستات) واللصوص وتجار الموت، بلاد لا يمكن العيش فيها!
استذكار الجرائم
صرخة درندش لم تكن صرخة فرد، بل إنها صراخ أجيال كثيرة عانت الظلم والقهر والموت والجوع، في زمن تربع فيه قاتل وسفاح على السلطة بمعاونة حزبه الدموي، وهي رسالة تذكير بأن نسيان جرائم ذلك النظام البائد هي جريمة بحد ذاتها، فالماضي قد يعود ولكن بلباس جديد!
نجح الفنان (ماجد درندش)، طوال ساعة من الضحك الممزوج بالبكاء، من خلال نصّه الذي كتبه، الذي لم يكن ليصل إلى المتلقي دون عمل جماعي، أدار هذا الاشتغال فريق ضم (مراقب الأداء) الكاتب والسيناريست ضياء سالم، و(الدراماتورج) الدكتور جبار صبري، وغناء بصوت الفنان حسن بريسم، الذي كان موسيقى العمل الوحيد، وإدارة الانتاج وتأثيثه للفنان سهيل البياتي، وآخرين، ويعدّ هذا العمل نتاجاً مشتركاً بين نقابة الفنانين العراقيين ودائرة السينما والمسرح.