بالخشّابــــة والهيـــوا و”حبوبــــي”.. الدنيـــا بصــــرا

387

آمنة عبد النبي /

“ييمّا شحلوة هالبصرا..مزيونّة كحلاوة نهر خوز”، إياك أن تتحايل على أنوثة السّمرة التي اذا لم تزرها مرة وتستسلم لإغرائها السرّي فستظل طوال حياتك لاجئاً وترتجف، وإلا بربكم، كم ألحقت بنا كلمة “حبوبي” لوعة دسمة وإحّاه حايلة، ليتني أستطيع ضمّ حروفها الى صدري واحداً واحداً وأوشوش بدلع؛
نحنُ نضحك مع الجميع لأجلكِ يا مزيونة ونبكي في الخفاء وحيدين وعُزلاً من التصنّع، فلم تعد هنالك بركة في عواطفنا المحنطة، ولا ملوحة تضاف الى أيامنا المُعلبة سوى البهجة المشفّرة التي من أجلها ودّ العراقيون مقايضة فرحة كأس الخليج بأعضائهم التي نخرتها الآيديولوجيا والحروب..
فإن لم تكن عاشق الخشابة والهيوا والكاسور واللنج، وإن لم تحتضن ضيوفك بـ (يمِن فدوة لهـ الوجه).. فلا يمكن أن تكون بصريّ الطين وبرحيّ الملامح والمزاج مثل أمنا السمرة وهي تشرع أبوابها للعابرين، فهي كالسياب هذه الأيام، وأنا أسمعه يهتف بصوتٍ مبحوح: لم أعد غريباً على الخليج..
عني شخصياً، أود وضع صورتكِ في متحف اللوڤر يا “بصرا”، ليتموّن الكوكب بأسره من لمعة حُسنكِ الفريد الخام، بل أحتاج أن اُدير عدسة الكون باتجاه خدّ الموناليزا الخليجية وهي تتمايل بدلع جنوبي مملوح وكأنها “فيولا”، المستشرقة الفرنسية التي زارت البصرة في القرن الثامن عشر.
مازلت أتذكر كم كان يرطب خاطري بملوحته البصراويَّة الترفة الروائي “زيد عمران” وهو يصف حلاوة التنوع العمراني والجمال اللغوي في لهجة “البصرا” وفخامة الآركيولوجية، قائلاً: في لهجتنا البصريَّة، نحن الجنوبيين، الساكنين على خاصرة النهر الذي ينبع من قلب الله، نستخدم كلمة “حُلوة” بإفراط.. نقول عن أكلة ما بأنها حلوة، ونعني بها أنها طيبة وشهية، ونقول عن دارٍ ما بأنها حلوة، ونقصد بها أنها فخمة ومريحة وأن هندستها رائعة، ونقول عن ثياب ما بأنها حلوة ونحن نشير إلى جودة قماشها وترافة تصميمها، ونقول عن امرأةٍ ما بأنها حلوة ونعني أنها جميلة وجذابة وساحرة، وكلما عصرنا كلمة “حلوة” ونطقناها بحرقة فإنها شديدة الجمال جداً.. لكن، وكما يبدو، فإن الله قد جمع “الحلا” كله في مدينة في أطراف القاهرة وسماها “حلوان”، لذلك فكلما رأيتُ امرأةً جميلةً في الشارع، وددتُ لو سألتها: هي الحلوة من حلوان؟
ألمحُ السندباد البحري وتاجر النفائس يتجول في شوارع العشّار وساحاته الممتدة على ضفاف الخور المدلل، يتسامر مع التاريخ والثقافة والعلم والآدب، ويتغنى بالشعر والزبير، ويصدح مع السيّاب في المربد على مدار الفِ ليلةٍ وليلة..
أطالع وجه المدرب “ڤييرا” الذي شرب في بلادنا قدح ماءٍ قبل خمسة عشر عاماً بعد أن أهدانا كأساً ذهبية عظيمة بالفوز، فأشعر في ملامحه دبكة وطن بصراوي كامل يتمايل على إيقاع دفوف الخشّابة.
ابتعد قليلاً عن كل هذا فيصادفني صانع محتوى عماني يتجوّل في البصرة حاملاً لافتة يعبّر فيها عن حبّه للعراق بكتابة أحب العراق “كلّش هواية”.. أمّا الكاتبة الجزائرية “أحلام مستغانمي” فأشعر أنها أدارت عدسة الوطن العربي “بزّاف بزّاف” باتجاه جوهرة الخليج لتحتفل بصفحتها للعراق والبطولة وكرم البصاروة، أجلس بعيداً من التعب وكمية الجمال الهائلة فيأتيني صوت أطفال يمنيين يغنون أغنية للعراق بكل حنية وبهجة وانتماء، أهرب من ذهول المشاهد إلى البيت فأفتح التلفاز وإذا بمعلق بحريني يبكي بحرارة الفرح ومرّ سنوات البعاد حينما يلفظ اسم العراق وشناشيل البصرة.. فيكون اليقين هنا صدق من قال:
الدنيا بصرة..