البصرة: عقد بيئي بين النخلة والبمبرة
طالب عبد العزيز /
قبل ثلاثين عاماً، حين لم يكن لديّ بريد إلكتروني، وفي حمّى حنينه وتشوقه للبصرة ولأهله، تلقيت رسالة، وبالبريد الورقي من صديقي الشاعر، المغترب جمال مصطفى، المقيم في الدنمارك الى اليوم، كتب فيها : “أتعلم ماذا يعني يا طالب أن لا ترى نخلةً ؟” آنئذ أيقنت أنَّ وجعه كان مُهلكاً، وأن ما يصيبه كان مقتلاً في روحه، ومن كلماته تحسست أوجاع الغربة والبعد عن الأهل والوطن،ومنه علمت ان النخلة تتشكل بأكثر من معنى،عند البصري، الخصيبي. لكنه، ما أن أخذ السيّارة الى بيتهم الأول، في قرية يوسفان، في زيارته الأولى لأهله، حتى قرأت في عينيه صورة جديدة للغربة، إذ لم يكن النخل ليظلل الطريق المتعرج الطويل، ولم تكن الأنهار كما عهدها، طويلة، بمائها العذب المنسرح، ولم تقف البلابل محييةً له. لقد تغير المكان، كنت أقرأ معنى آخر للغربة في كفّيه وبين أصابعه، التي راح يشير بها فاغر الفاه، منهلاً الى الجهة هذه وتلك.
الهنبوش
يعرف أهل ألبصرة نزول البشير(الهنبوش) من اصفرار ثمرة البمبر، هناك عقد أخضر، بيئي بين شجرة البمبر وشجرة النخل، فما أن تلوح الصفرة في ثمرة الأولى وينتظر الناس الأسبوع أو أقله، حتى تهبط الصفرة فصيحة، بائنة في الثانية، والناس هناك يتداولون نوعاً من الأسئلة فواحدهم يسأل جاره، الذي صعد النخلة ليقوم بتفريد(تعكيس) العذوق، ألم يلح لك الهنبوش؟ فيجيبه: لا، للآن لم تبلغ الصفرة ثمرة البمبر، ومثل السؤال هذا نسمعه عن مواسم المطر وارتفاع درجات الحرارة وارتفاع المد والريح الشرقية الرطبة والصُّبور. البصرة مدينة مواسم لا تعد، فما أن ينقضي موسم حتى يحلَّ موسم، ذلك لأنَّ الحزن شحيحٌ في المدينة كان.
ما الذي جرى؟
يسألني جمال: ما الذي جرى؟ فأقول: كما ترى !! كان النهر الذي عليه بيتهم لا يبعد عن شط العرب العظيم كثيراً، وكان الزورق الذي يصطاد به جارهم السمك خشباً، مدهوناً بزيت كبد الحوت، وكانت البمبرة التي عند شريعة بيتهم وارفة، عملاقة تمطر عسلاً، وكان النخل يحيط بيتهم الطيني من كل الجهات، وكانت الشمس تجاهد في الشتاء لكي تغمر باحة البيت ساعة من النهار، كذلك كانت في البيوت كلها، وكانت الشباك ترمى في النهر لتمتلئ زعانفاً وثمار توت وأشنات، وكانت العذوق الفائضة عن حاجاتنا في موسم التفريد ترمى على العشب لتشبع كل البقر، كل الماعز والأغنام، وكان القثّاء يتسلق أخصاص القرى، كذلك يفعل اليقطين والقرع الأحمر واللوبياء، وكانت الدشاديش تترك في السوابيط لتحط عليها الفواخت ولتنقر ياقاتها الدبابير.
العذوقُ والخلال
يقول حسن، الفلّاح الذي ترك “الفروند” على الجذع وتشوّك النخلة، (تشوكها أي صار في قلبها) وراح يبحث في العذوق المئة عن الغريب والوحشي فيها، عن الذي قرضه الجُّعل فكاد يسقط، والذي شقَّ ليفته متأخراً فهزُل وضَمُرَ: عمّي، كم عِذقاً أجعل فيها، فأقول ثمانية، ويردُّ مؤمّناً عليّ : كلما قلّت العذوقُ كبرت الخْلالة وطابت الرطبة وصارت التمرة يانعة وبدبس كثير، فأردُّ: أي، نعم. وساعة أخلو معه يحدثني بحديث السنوات والأيام، حديث المُهيلات التي كانت تصل السباخ خفيفة في المد، وتغادرها ثقيلة في الجزر، حديث الجسور التي تتقاطع تحتها السميريات والأبلام، وينتظر عند دعاماتها الصيادون وبائعو الفوانيس وعلب الكبريت، حيث لا تبعد دائرة الجمارك العثمانية، بقلعتها على المدخل طويلاً. هناك، حيث وقفتُ طويلاً، أتأمل الحلقة الحديد، الناتئة في بدن الجسر، تلك التي أحكمتُ اليها ربط قارب أبي، وبقيت أنتظره حتى عاد من السوق، كان كيس الرز ثقيلاً، كذلك كان كيس الطحين وكانت علبة السمن صفراء براعٍ وعصا وناي، وكانت عباءته تحته، حين رحت أجذّف باتجاه منزلنا، وكان الموج هادئاً حتى بلغنا المسنّاة، حيث شجرتا التوت العملاقتان
من كل نخلة أفرد حسنٌ ثمانية عذوق، ومن كل سماء ظليلة اقتطع لي فسحة زرقاء واحدة، وتحت شجرة البمبرة استراح، ولما كنت أحمل طبق الخبز بالبيض والبصل والقثّاء له، سألني ما إذا كنت نسيت التمر واللبن، فأدركت مسألته. إذ لا طعام لفلاح، أيَّ فلاح، دونما تمر ولبن. كان الدهدار، وهو منصب رفيع، يعني رئيس الفلاحين، العارف بشؤون البساتين والنخل، استحدثه الناس في أبو الخصيب وصار معنى من معاني الخبرة والدراية والسؤال، كان يصيح بجمع من أقرانه: “فلاح”، هكذا دونما تشديد، فهي من الظفر والفوز ساعة، يؤتي بطبق التمر والخبز واللبن، ساعة يستريحون من كد وشمس، ساعة يتناولون فيها طعامهم، أي طعام لمن كانت بطونهم خمصاً، لمن كانت تدور على خصورهم الحبال فلا تجد السفائنُ مهبطاً..