الترميز في شعر سعاد الصباح
عدي العبادي /
تقول الناقدة الفرنسية سوزان برنار: إن قصيدة النثر هي «قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحدة، مضغوطة، كقطعة من بلور.. خلق حرّ، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كل تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية.»
أي أنها تحمل أكبر عدد ممكن من الصور من خلال تلميح الناقدة، ومضغوطة، وفيها البناء الخارجي، أي قصيدة كونية مفتوحة على كل شيء.
وقد ظهرت أصوات شعرية نثرية عربية كثيرة، منها أدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط والشاعرة سعاد الصباح، التي امتازت عن الشعراء الباقين بنضج أسلوبها الذي تظهر فيه المباشرة، لكنه يحمل الانزياح، أي ما يعرف بالسهل الممتنع، ما جعل كل الطبقات تتذوق أشعارها، التي وصلت الى كل الناس.
وأذكر أني قرأت مجموعتها (فتافيت أمراء) فوجدت فيها لغة ترميزية ووضوحاً، وقررت بعد زمن الاطلاع على تجربتها الكتابية وقمت بعملية استقراء استكشافية، كي أكوّن رأياً نقدياً، وأنا اعترف بصعوبة المسألة، فالشاعرة سعاد الصباح صاحبة تجربة طويلة تمتد لسنين، ولهذا سأتناول بعض الجوانب، إذ لا يمكن حصر تجربة شعرية عربية مهمة في دراسة نقدية واحدة. تقول الشاعرة في نص عنوانه (قل لي):
هل أحببت امرأة قبلي ؟
تفقد، حين تكون بحالة حب
نور العقل..؟
قل لي.. قل لي
كيف تصير المرأة حين تحب
شجيرة فل ؟
قل لي
كيف يكون الشبه الصارخ
بين الأصل، وبين الظل
بين العين، وبين الكحل ؟
كيف تصير امرأة عن
عاشقها
من عنوان النص، الذي هو مفتاح العمل ومقدمة الدخول الى عالمه، نجد الشاعرة توجه سؤالاً الى شخصية لم تفصح عنها، لكن الدلالة تشير الى الحبيب، فيصنف هذا النص كنص غزلي، ثم تتحول في المقطع الثاني من النص فتقول له -أي المخاطب- هل أحببت امرأة قبلي كي تتضح الرؤية، فالشاعرة تجهد في إيصال الفكرة كاملة ثم تطرح تساؤلات جميلة مثل كيف تصير المرأة حين تحب شجيرة فل؟ كيف تصير امرأة عن عاشقها، وهي تكرر “قل لي” والتكرار هنا لا يخلق مللاً على اعتبار أنه في كل مرة يكون مع حالة مغايرة طرحتها. تقول في مقطع ثان من النص:
قل لي لغة…
لم تسمعها امرأة غيري…
خذني.. نحو جزيرة حب
لم يسكنها أحد غيري
حدود الشعر
قل لي: إني الحب الأول
قل لي: إني الوعد الأول
قطّر ماء حنانك في أذنيا
وازرع قمراً في عينيا
إن عبارة حب منك..
تحولات شعرية
تحول جميل، فبعد طرح التساؤل تطالبه الشاعرة أن يقول لها لغة خاصة لم تسمعها غيرها، وتطلب منه أن يأخذها إلى جزر الحب، وكان الصعود الشعري في طلبها أن يذهب بها “خذني نحو كلام خلف حدود الشعر”، انها الواقعية السحرية التي اشتغل عليها أدباء أميركا اللاتينية في رواياتهم، ماركيز وهمنغواي، وهي تقديم الواقع بطريقة تسحر إذ أن الشاعرة سعاد الصباح تتكلم بطريقة سحرية الواقع، ومع تعدد الصور والانتقالات في نص “قل لي” لكن الشاعرة ظلت محافظة على البنية النصية، وفكرة العمل الذي اكتملت صورتها في أذهاننا في نص عمل ثان عنوانه (قد كان بُوسعي،) تقول فيه:
قد كان بوسعي،
أن أحتسي القهوة في دفء فراشي
وأُمارس ثرثرتي في الهاتف
دون شعورٍ بالأيّام.. وبالساعاتْ
قد كان بوسعي أن أتجمّل..
أن أتكحّل
أن أتدلّل…
أن أتحمّص تحت الشمس
وأرقُص فوق الموج ككلّ الحوريّاتْ
تحيلنا الدلالات في هذه القصيدة الى أن سعاد الصباح توجه خطاباً مفتوحاً للذائقة العامة، ففي بداية خطابها تقول “كان بوسعي أن أحتسي القهوة في دفء فراشي وأُمارس ثرثرتي في الهاتف” أي أن هناك فكرة ما تسعى الى توضيحها، لكنها وضعت الإشارات كي تفتح باب التأويل عند المتلقي لتثير فضوله، وهذا ما يجعل نصها تفاعلياً ينتظر فيه المتلقي ماذا تريد أن تقول الشاعرة، التي تسترسل في كتابتها حتى تقول:
قد كان بوسعي أن لا أفعل شيئاً
أن لا أقرأ شيئاً
أن لا أكتب شيئاً
أن أتفرّغ للأضواء.. وللأزياء.. وللرّحلاتْ..
قد كان بوسعي
أن لا أرفض
أن لا أغضب
أن لا أصرخ في وجه المأساة
لكنّي خنتُ قوانين الأنثى
واخترتُ.. مواجهةَ الكلماتْ
إن أبرز ملامح شعر الدكتورة سعاد الصباح الغوص العميق في فكرة العمل وتوضيحها بما يمتاز بالقضية، أي أنك في كل نص تجدها تدافع عن قضية، وهذا هو الشاعر الذي يعتبر صوت المجتمع كمالاً يرتبط فيه الأدب والفن بكثير من القضايا الإنسانية والاجتماعية والسياسية، على اعتبار أن الأدب والفن نتاجان فكريان إنسانيان خالصان، فالأديب والفنان كلاهما من الناس، يعيشان معهم ويشاركانهم في فرحم وحزنهم ويجري عليهما ما يجري عليهم. ويظهر لنا هذا من خلال المنتج الأدبي والفني. كما أن الأديب والفنان يختلفان عن غيرهما من الناس بطريقة التفكير والرؤية و الإحساس والمشاعر فهما كائنان شفافان ذوا حسية عالية، والشاعرة هنا ختمت نصها: “واخترتُ… مواجهةَ الكلماتْ” والترميز هنا لمواجهة الرافضين لحرية المرأة، والكلمات تعني الخطابات التي ستكون ضدها.. انها بحق شاعرة القضية.
السيمفونية الرمادية
نص جميل عنوانه (السمفونية الرمادية) تطرح فيه الشاعرة قضية كبيرة ومهمة تخرج فيها عن محلية المرأة إلى فضاء أوسع:
يا أحبابي:
كان بودّي أن أُسْمِعَكُمْ
شيئاً من موسيقى القلبْ
لكنَّا في عصرٍ عربيٍّ
فيهِ توقّفَ نَبْضُ القلبْ…
يا أحبابي:
كيف بوُسْعي ؟
أن أتجاهلَ هذا الوطَنَ الواقعَ فيِ أنيابِ
الرُعْبْ ؟
أن أتجاوزَ هذا الإفلاسَ الروحيَّ
وهذا الإحباطَ القوميَّ
وهذا القَحْطَ.. وهذا الجَدْبْ
توظيف جيد وتناغم تشتغل عليه الشاعرة، إذ كانت البداية اعتذاراً من الأحباب عن إسماعهم شيئاً من موسيقى القلبْ، والسبب قضايا الوطن العربي، إنه إحساس بالمسؤولية ورسالة مفتوحة، وكان الصعود في النص بقولها “أن أتجاوزَ هذا الإفلاسَ الروحيَّ”، هذا الانزياح كي يكون منتجها شعرياً بعيداً عن اللغة المتداولة، وتكون كتابتها قصيدة نثرية وكمالاً. يقول كلايف سكوت إن “قصيدة النثر هي جزء من حركة عامة باتجاه الشعر الحر.” ويصفها موينير في مقدمة كتابه (الشعر الفرنسي) على أنها ظاهرة فرنسية، ولكن نجد الشعراء العرب حققوا قصيدة نثر عربية تستحق أن تنافس عالميين.