المدينة والحب والثورة في رواية “حبٌّ عتيق” لعلى لَفتة سعيد
د. حنان الشرنوبي /
يقول (فريدريك نيتشه): “إن السر لحصادٍ أعظم، وإثمارِ أكبرِ قدرٍ من الاستمتاع في الوجود هو بالعيش بشكلٍ خطير! ابنِ مُدُنَك على سفوح جبل فيزوف.” ولعل ما استوقفني في مقولة نيتشه أمران.. أولهما فكرة الوجود التي تتبنى الإنسان تبنياً أنطولوجياً، وثانيهما استعماله الرمزي للجبل البركاني الثائر؛ وفي كلا الأمرين ما يجعل القارئ مشدوداً إلى ثيمة هذه الرواية عبر قَصص الحب المتشابهة.
من المعروف أن هناك روايات فيها طابع فلسفي ووجودي من الأصل؛ مثل روايات ألبير كامو، وخير أنموذج لها (الغريب)، كذلك روايات سارتر في (دروب الحرية)؛ وأدب كولن ولسون، والأدب العبثي أو اللامعقول، كله أدب فلسفي.. وفي (حبٌّ عتيق) نجد لمحات وجودية وفلسفية أيضاً.. تبدأ التساؤلات من العنوان (حبٌّ عتيق)؛ فالحب في الرواية لا يعني الانسلاخ عن الواقع وإلا صار ضياعاً وتيهاً، أما كلمة (عتيق) التي تجمع بين القِدَمِ والأصالة فيقول السارد: (هذه المدينة قديمة قبل أن يحتلها العصمليّة والإنجليز).
ثم يفسر في موضع آخر العنوان بأكمله من وجهة نظر أحدهم: “الحب يعني الحياة؛ والتجارب مقياس كبير للحفاظ على ديمومته، وهذه التجارب المتجددة والدائمة تمنحه الأصالة والعراقة ليكون الحبُّ عتيقاً.”
تطرح الرواية بعض الأزمات الراهنة، أبرزها التطرف الديني لمن يُرهب الناس ويحذرهم من جهنم وحرق الجلود ولهيب السياط، ثم يعالجها بأنّ كلَّ شيء يمثل سلاحاً ذا حدين؛ فالمقهى ليس فقط للقمار وملهاة عن ذكر الله، بل ملتقى للثقافة وبالإمكان تحويلها إلى ملتقى إيماني لو أحسن استعماله، وعلى رجال الدين تذكُّر معاناة الناس ومشاكلِهم؛ فالحياة ليست للعبادة فقط، ونفي نكران أحدٍ لوجود الله.
من هنا نتلمّس لَفتةً وجوديةً بين السطور، وهي ليست كما يظن البعض بأنها تحطُّ من قدر الدين؛ فهناك وجودية كيركجارد الملتزمة وحتى آخر مراحلها – العدمية- لم تبخس الدين قدره.. فالوجودية -الملتزمة والعدمية- سواء؛ لا تنتقد الدين ولا تمجده؛ ربما يؤمن أصحابها بالدين لأن هدفهم هو فكرة الإنسان.
فمحمود –الصابئي- أحب رزيقة المسلمة السنيّة؛ مثلما أحب نعمان الشيعي تانيا المسيحية، وزواج كلٍّ منهما يعني خسارته لأهلِه ومدينتِه، فالحب لا يحرّمه دين ولا يجرّمه قانون؛ إنما هو الخوف من ذكورية المجتمع، والسارد يوضح أن الصابئة واليهودية والمسيحية والإسلام قد انبثقت كلها من مشكاة واحدة، فعندما يسمع الأصدقاء -المسلم والمسيحي واليهودي- الشيخ (يوار الناصورائي) يكتشفون أنها نفسها الديانة التي تحرّم في دينه الكفر والقتل والسرقة والكذب والتأويل وشهادة الزور والحسد والنميمة وخيانة الأمانة والزنا وأكل الميتة والدم وشرب الخمر والربا والانتحار.
فالسارد عندما قال كلمته تلك؛ ذكر مقابلها المحتل ووصفه بأنه (شرطي من دول الكفر) ما يعرّض ببراءة الأديان السماوية من كل معتدٍ يغتصب أرضاً باسمها، لكنها في الواقع باسم النفط وثرواتِ أوطاننا التي عمل المستعمر على نهبها إن لم ينتبه أبناؤنا والأجيال المقبلة.
كما عرض السارد أمثلةً لخيرة شباب الوطن بعد أن ضاعت تحت وطأة الاحتلال وإن كان احتلال القلب (رمزاً) كما حدث مع (نعيّم بن الشيخ كاصد)، ذلك الشاب النزق الكريم الذي تحول إلى (مجدّي)، أي يستجدي ويتسول، فيطرق أبواب البيوت والمستشفيات ومراكز الشرطة متسوّلاً مهر بدرية، فلم يجد منها ومن الأبواب التي طرقها سوى الاحتقار والرفض والسخرية. الأمر متقارب مع (ستّار) الذي نزح إلى سوق الشيوخ بعد أن وأَدَ صوتَه الذي طالما حلّق؛ ليعمل حمّالاً مخلِّفاً وراءه جثث أهله وحبيبته التي لم يلمس منها إصبعاً؛ لكنها دُفِنَت بعد تمزيق بطنها بخناجر الاستعمار، فكان يرتعد كلما نظر إلى صفحة الماء وكأن وجهه يذكّره بماضيه والثأر الذي ينتظره.
أغلب الظن أن السارد عَمَدَ في بداية الرواية إلى بعثرة أحداثِها لإحداث هذا الأثر النفسي عند المتلقي، عاكساً حال العراق في هذه الفترة تأثراً باحتلال الأتراك والإنجليز، إلى أن يثور البركان عام ١٩٢٠ في ثورة العشرين التي اندلعت ضد الاحتلال الإنجليزي والإقطاعيين وسياسة تهنيد العراق، فكان من أبرز نتائجها إنشاء أول سُلطة عراقية وتنصيب الملك فيصل الأول ملكاً للبلاد.
ثم يثور البركان ثانيةً عام ١٩٣٥ وإحداث ثورة مذهبية انتهت بالقمع. والمتعمق في الرواية يجد أنها ليست قصة حب بقدر ما هي قصة كفاح وتآخٍ عبّرت عن واقع المدينة الاجتماعي والسياسي في هذه الحقبة، وكأن أبناء هذا الجيل عايَشوا الثورتين وما نجم عنهما من آثار، فأنهى الأديب روايته بلحظةِ انتباه إلى (نعيّم) الذي ارتدى ملابس شيخ العشيرة وقد عادت الدماءُ إلى وجهه مشاركاً في التظاهرات إلى جانب ستّار الذي بُعِثت الحياة في صوته العذب فأخذ يصدح بأناشيد الثورة ليصل صوتَه إلى الإذاعة وإلى الوطن بأكمله لتكون البداية.