حنين.. فتاة تقتحم مهَن الرجال وتبتسم

1٬126

تحقيق: آية منصور /

 بضحكتها العفوية تحتضن قدومك إليها، تسألك بودّ عما تفضل أن تشربه، تعيد تصفيف شعرها بين الحين والآخر، وتنظر كثيراً لأساورها الجلدية وتعيد تفحص الوشم الذي يحمل سيف الإمام علي (ع) على يدها حتى وهي تعد تلك القهوة، القهوة التي تسابق الريح ليصل عبيرها إلى أنفك أولاً. إنها «حنين» وقهوتها اللذيذة، فتاة تمكنت من الزمن بالقهوة، وكرة القدم.
في البدء سألتني:

-ماذا تفضلين، قهوة بالبندق، بالنستلة، وسط، “سادة”، حلوة؟

لتؤكد لي براعتها في صنع جميع أنواع القهوة حتى الباردة منها. تجرجر عربة خشبية (كبيرة وضخمة مقارنة بجسد حنين النحيل)، وتضعها على الرصيف. تبدأ حنين باستخراج مكونات القهوة لتصفهن الواحدة قرب الأخرى في سرعة ملحوظة، تمسح الغبار وتنسق الإضاءة المعلقة على “الكشك السعيد”، ثم تشرع بالنداء قليلاً: “قهوة، قهوة!»، وتسكت منتظرة مجيء عشاق القهوة ومحبيها إليها.

“بدأتُ العمل منذ أكثر من خمس سنوات، أي مذ كان عمري ١٥ سنة، لأنني كنت المعيلة الوحيدة لجدتي، ولكي أوفّر مصاريف وتكاليف الدراسة المتوسطة والإعدادية. عملتُ في بادئ الأمر بائعة للأحذية الرياضية، وللملابس، ثم مندوبة للمبيعات. تجوّلت من محل لآخر عدة سنوات، حتى ترك ذلك أثراً على دراستي في السادس الإعدادي، فأعدت امتحان السادس ثلاث مرات.»

الدراسة تنتظر

بقاء حنين لأكثر من ١٢ ساعة في العمل وتأثيره على دراستها جعلها تفكر بمشروعها الخاص.
«لم أرد أن أخسر دراستي، كما وددت أن أمتلك عملاً خاصاً بي يجعلني أتمكن من الذهاب والعودة وقتما أريد دون التأثير على حياتي. صرت أفكر بالقهوة لأنني عملتُ في مقهى يوماً ما حتى تمكنت، بمساعدة العديد من الأصدقاء والديون، من شراء العربة الخشبية، وقتها كنت قد تجاوزت مرحلة السادس الإعدادي.”

كرة قدم نسائية

تهوى حنين لعبة كرة القدم وتمارسها كهواية، وتستمتع بقضاء وقت فراغها في ركل وجه الكرة بقدمها، ثم تتوجه بعدها نحو جامعة بغداد لتواصل دراستها في قسم التربية الرياضية.

واجهتُ عقبات كبيرة عند افتتاحي كشك القهوة من الجميع، تنمّروا عليّ ووصفوني بالمسترجلة، أشاعوا أن ما أفعله (عيب)، وأنا أدرك تماماً ما هو العيب، فلم أعبأ بهم ولا بعباراتهم، لكنهم كانوا دائمي التساؤل عن كيفية قدرة فتاة على العمل بمهن كهذه؟

هل تكسر الأعراف؟

تريد «حنين» وتحاول، جاهدة، أن تكسر تلك الأعراف التي جعلت المرأة محصورة في زاوية صغيرة، لا تستطيع من خلالها فتح أي باب أو كوّة، أو حتى رؤية ضوء بعيد. كشك حنين المتنقل من مكان لآخر عرضها لانتقادات كثيرة، ولأنها فتاة، قامت بقصّ شعرها، غيّرت ملابسها، وأصبحت، كما تقول، “حرة من الجسد الذي يغضبهم».

“أنا في هذا المقهى المتنقل والصغير، أشعر وكأنني في عالمي ومنزلي الخاص، أعود من الجامعة مباشرة نحو الكشك، أستطيع الدراسة وأنا في مكان عملي. لم أترك دراستي يوماً واحداً كما كنت أفعل خلال عملي في الأماكن الأخرى. تحملتني هذه الأخشاب صيفاً وشتاء، أتعرض أحيانا حتى لصعقات كهربائية خفيفة عند سقوط المطر، وفي بعض مرات أغفو دون أن أشعر بذلك. إنه مكاني الآمن أكثر من أي موقع آخر، لا أعلم لِمَ يحاسبونني عليه؟»
تواجه «حنين» كذلك قضية عودتها المتأخرة إلى المنزل فتقول، وهي تضحك وتسوّي أساورها مجدداً ثم شعرها باليد الاخرى:

«يصبح عملي في ذروة زخمه من فترة العصر إلى الليل، لذلك أضطر للبقاء حتى وقت متأخر من الليل، حتى أن الجيران أسمعوني كلاماً سيئاً وأشعروني وكأنني أعيش على الحرام، لكن ما يهمني حقاً هو استمرار عملي ودراستي».

الرزق على الله

تؤكد حنين أن لها العديد من الزبائن الذين يحبون قهوتها، في كثير الأحيان تعتمد على هؤلاء الرواد لتنهي تعب اليوم برزق بسيط:

«أصبح زبائني هم أكثر من يحملني مسؤولية بقائي، بعضهم يأتي من مناطق بعيدة من أجلي، في بعض الأحيان لا أحصل حتى على خمسة آلاف دينار في اليوم الواحد، وهو مبلغ لا يكفي لشراء الجبن والبيض، لكنني أبتهج بها، أبتهج بقدرتي على شراء شيء ما من تعبي وأن كان قليلاً، قليلاً جداً، لأن الرزق على الله، لا على البشر.»