خرافة الحـــبّ من أول نظرة
كتابة: جواد غلوم /
يشيع البعض فكرة وجود الحب من أول نظرة وكأنها واقع فعلي راسخ يعضّد المحبة والتواد بين اثنين أعجب أحدهما بالآخر على حين غرّة ودون سابق معرفة، سوى أنهما تبادلا النظرات، وتغلغل الحب بينهما دون مقدمات، وإيهام الإحساس بـن العين عشقت قبل العقل والقلب والمشاعر، وتناسينا أن هذا الحب المفاجئ ما هو إلا إثارة ووخزة لحبٍّ كان نائماً وصحا بعد أن سطع ضوء الإبهار الذي يُعمي البصر قبل البصيرة، ولا يؤذن بدوام الحبّ أمداً طويلاً. وقد تكون غاية استمراره بضعة شهور حتى تبدأ اليقظة العقلية لتنبئ الطرفين أن العاشِقَين الواهمَين قد أخطآ الطريق السليم، وسلكا العثار والمطبّات قفزاً ومَيلاً غير مستقيم.
قد تكون الشهور الأولى لحبيبَي النظرة الأولى مفعمة بالرومانسية والتعلّق والانبهار، لكن سرعان ما يصطدم الاثنان بواقعٍ مرير بعد يقظة من حلمٍ خاطف حافلٍ بالسرور والبهجة، إلى واقع مرير وثقيل في وطأته على الطرفين، فيتمنى الاثنان أن يفسخا عقد الحب بعد مرور زمن كافٍ أشبعا فيه عواطفهما خلال فترة الطفرة العابرة التي عاشاها في مشاعرهما، مع أننا لا ننكر أن علاقة الحب من النظرة الاولى تبدأ وهي مفعمة بالمشاعر الجيّاشة وخلق الأجواء الرومانسية الساحرة والتعايش في خدَر الحب والأحلام الوردية. وحالما تنتهي تلك الأحلام والأطياف الملوّنة يجيء الواقع القاسي القلب ليخز الاثنين بأن الحفل الجميل قد انتهى وعليهما أن يغادرا ويودّعا بعضهما.
الحب من النظرة الاولى في أغلب حالاته يمكن أن نعدّه إثارة وإعجاباً مفرطاً، قوامه الشكل الظاهر والطلّة الأولى وما يصاحبها من اندهاش في الرؤية السطحية دون الرويّة العقلية، كمن تثيره ألاعيب الماكياج وتبهره مسحات أحمر الشفاه والألوان والمزركشات الأنثوية التي سرعان ما تزول مع مرور الزمن. فالنظرة إلى الأعماق والباطن تتوه وتعمى أمام سحر المرأى الملفت الجميل الذي استعار جماله من المساحيق والأزياء ليكون قواماً مصطَنعاً يثير الأنظار. إنه فريسة فخٍّ صائد يأخذك إلى شباكه الحريرية فتهنأ بنعومة ملمسه وتنسى أنك معتقلٌ في داخله.
ومثل هذا الحب من النظرة الأولى والقائم على الإثارة والإعجاب يكاد يفتقد الرابط العقلي والعاطفي الذي يتطلبه الزواج باعتباره رباطاً مقدساً مباركاً يساهم العقل والعاطفة في صنعه، وتديمه كثرة المعاشرة والمساكنة والألفة الطويلة. إذ من المحال أن يدوم طويلاً طالما توكّأ على رؤية واحدة ونظرة إعجاب متعجلة. فالعزم على الزواج وصواب الاختيار قد يستغرق عدة شهور أو ربما سنوات لفهم أحدهما الآخر فهماً تختلط فيه المشاعر الجياشة الكامنة في القلب، وتؤذن للعقل بأن القناعة قد رسخت للارتباط بعقد محبّة وتوائم وانسجام وحياة مشتركة قائمة على الرضى بالطرف الآخر، مما يمهّد للحبّ أن يتأرجح بين الزوج والزوجة ويمرح بينهما ويملأ البيت بهجة وسعادة، وتزداد بمرور سنوات المعاشرة والمساكنة، حيث يتآلف العقل والقلب معاً ويبنيا عشّ الزوجية لبَنةً لَبنة كي يكتمل.
ما زالت كلمات صديقي وزميلي الذي أحبَّ فتاةً منذ أول رؤيته لها بعد تخرجه من الجامعة، وكنا معاً طيلة سنيّ الدراسة في آداب بغداد ثم تباعدنا بعدها. وحين التقيته مؤخراً عن طريق الصدفة سألته عن أحوال زوجته ظانّاً أنها في كنفهِ إلى الآن، فقال لي ضاحكاً:
أحببنا بعضنا مذ أول نظرة، وافترقنا متراضين بعد أول سَنة من العِشرة!