عالمية الأدب

21

أحمد سعداوي /

في واحدة من الفعاليات الثقافية التي أقيمت لي في برلين قبل بضع سنوات، انتبهت لامتلاء القاعة بجمهور متنوّع، بعضهم من الجاليتين العراقية والعربية، وآخرون من الشباب وكبار السنّ الألمان. جرت الفعالية على أحسن ما يكون، وقدّم لي بعض الحاضرين الورود، ووقّعت بقلم الماجيك على صور لي ملوّنة، وكأنني مغنّي بوب، أو روك.
قدّم ممثل ألماني معروف قراءة “مُمسرحة” لمقطع من روايتي، وعلى الرغم من أنني لا أعرف الألمانية، ولكن، من تعبيرات وجه الممثل وأدائه الاحترافي خمّنت المقطع الذي كان يقرأه.
جرى التعامل معي على أنني نجم أدبي، وخامرني للحظات أن برلين كلّها تحتفي بي. غير أن هذا كان شعوراً مبالغاً به، ففي قاعات مجاورة من المركز الثقافي المهيب الذي أجريت لي فيه الفعالية الثقافية، كانت هناك قاعات أخرى تحتفي بكتّاب ألمان وأفارقة ومن مناطق مختلفة من العالم.
واحد من الانطباعات التي خرجت بها من هذه التجربة، وتجارب أخرى مماثلة على مدى السنوات الماضية، أن هناك استهلاكاً عالياً للأدب في هذه البلدان، على الرغم من غزو ثقافة الصورة وثورة المعلومات ومواقع التواصل، وأن الألمان، على سبيل المثال، يستهلكون الكتب بشكل معتاد، غير أنهم جمهور متنوّع، يأتي بعضهم لالتقاط الصور مع أديب قادم من العراق، ويحتفون بكتبه، ويذهب آخرون الى كتب أخرى وكتّاب آخرين.
انطباع أساسي آخر؛ أن هؤلاء الذين يقفون في طوابير طويلة لأخذ توقيعي على نسخة مترجمة من روايتي، كما حصل مثلاً في معرض أدنبرة للكتاب 2018، ليسوا سوى جزء من الجمهور، أما الجمهور الأكبر فهو يتّجه بشكل طبيعي نحو الكتّاب الوطنيين. أي؛ أن الفرنسي يحتفي أولاً بالكتّاب الفرنسيين، وكذلك الألماني والإنجليزي وغيرهم، ثم بعد ذلك يحتفون بالكتّاب الأجانب القادمين من لغات أخرى.
بسبب ذلك، فإن خمسة بالمئة من سكّان إيطاليا اشتروا في العام 1980 رواية (اسم الوردة) للكاتب أمبرتو إيكو، بعد صدورها. وباع مؤلفها بالمجمل 3 ملايين نسخة من الرواية، وهذا في إيطاليا وحدها.
إن عالمية الأدب تتحقّق حين يتفاعل جمهور متنوّع من خلفيات ثقافية مختلفة مع النصّ الأدبي الذي يترجم من لغته الأصلية الى لغات أخرى، ولكن من الصعب القول إن عملاً أدبياً حقّق هذا التفاعل في اللغات الأجنبية من دون أن يكون فاعلاً ومؤثراً في لغته وثقافته الأصلية. كما أن العالمية التي يتحقّق شرطها بخلق الأثر والتفاعل لا تعني النجومية، فهذه قد تحدث للكاتب في بلده أو في بلدان الثقافة واللغة المشتركة، ولكنها قد لا تتحقّق خارج ذلك، لأن النجومية صناعة وسوق، وصناعة النشر والدعاية الضعيفة والسوق الصغيرة لا يمكن أن تخلق نجوماً.
إن نصوصاً تراثية مثل (رسائل إخوان الصفا) أو (المواقف والمخاطبات) للنفّري هي نصوص عالمية، خلقت تأثيراً عند قرّاء متنوّعين حول العالم، ولكن نسبة القرّاء هذه تبقى صغيرة في سوق القراءة والكتب، بينما نصّ متواضع القيمة مثل رواية (الخيميائي) باعت 37 مليون نسخة حول العالم، وحوّلت مؤلفها الى مليونير لديه طائرة خاصّة، وقصر على الساحل البرتغالي، بسبب صناعة النشر والدعاية القويّة، وسوق القراءة الكبير المفتوح باللغات الأوربية.