لطفية الدليمي لـ”الشبكة”: الرواية يمكن أن تكون علاجاً لأمراض الكاتب

1٬580

 خضير الزيدي /

لا يشار للحركة الإبداعية النسوية في العراق إلا وهي بوصلة الاتجاه، ولا تذكر طرائق النص الروائي وتوظيف الجانب الصوفي والعرفاني، إلا واسمها في المسار الأول، كاتبة مبدعة ومترجمة رائدة، تمتلك حضوراً لافتاً ومميزاً في الوسط الثقافي.

إنها الكاتبة المبدعة لطفية الدليمي.

عن منجزها وكيفية التفكير في طريقة الكتابة وخطاب الإبداع وعالم الترجمة كان لـ “الشبكة” معها هذا اللقاء:

موسيقية النص

* لنتحدث عن سمات نصوصك، وبخاصة حضور الموسيقى؟

-نعم، السمة المهمة لديّ تكمن في التركيز على (موسيقية) النص والتعامل مع موسيقى الكلمات باعتبارها أداة فاعلة في التعبير عمّا لا يمكن التعبير عنه بالكلمات المجردة، إن استخدام البناء الموسيقي وتوظيفه في النص الروائي يمنح النص بهاء وقدرة على تمرير الأفكار عندما تعجز اللغة اليومية المتداولة عن ذلك، وعلى نحو شبيه بما تفعله السمفونيات الكلاسيكية. إن (موسيقية) العبارة الروائية، كما أراها، تشكل بصمة خاصة يصعب تقليدها ونسخها لأنها بناء جوّاني متماسك بخيوط لا مرئية، له سرُّه الإيقاعي ونسيجه النغمي، هنا لابد من الإشارة إلى أن موسيقى العبارة التي أعنيها تختلف اختلافاً جوهرياً عن الانثيالات العاطفية السيّالة التي تسعى لتحويل الكلمات إلى لعبة لغوية مسطحة ولزجة لإثارة العواطف تطلعاً لاستدراج فئات معينة من القراء في بعض الروايات العربية السائدة في السوق.

قبسات من المعرفة

* ماذا عن التخطيط لسمات أخرى حول الكتابة؟

-السمة الأخرى تكمن في الحرص على جعل الرواية نصاً معرفياً إلى أبعد المديات، ومن يتابع رواياتي (وبخاصة روايتي الأخيرة المنشورة حديثاً عن دار المدى) سيلمس قبسات من المعرفة العلمية والفلسفية والسايكولوجية والتأريخية تتواشج مع الصفات الخاصة لكل شخصية وتبرز اهتماماتها وأحلامها وتحدد نمط سلوكها، ويتفق هذا مع قناعتي المتزايدة بأن الرواية الحديثة ستلعب في السنوات المقبلة دور (الحاضنة المعرفية) التي تزوّد الأجيال القادمة بقدر معقول من تلاوين المعرفة المتجددة وبخاصة بعد الانفجار المعرفي الهائل والكشوف العلمية المتواترة، وقد أسهمت وسائل المعرفة الرقمية واعتمادها على الخوارزميات المحكمة في انحسار القدرة التحليلية لدى هذه الأجيال المسحورة بالعالم الرقمي، وسيكون بوسع الروائي المتمكن (من خلال مقاربة مفردات المعرفة بوسائل ناعمة وسلسة) إعادة التوازن بين المعرفة التحليلية والخوارزمية الرقمية المهيمنة ليساعد بعمله الإبداعي على تعزيز كفاءة قرائه الشباب لاستخدام الطاقات الخلّاقة المتاحة للعقل البشري.

* ربما أفهم من كلامك أنه لا توجد معايير محددة لنميز بين لغة سردية وأخرى أكثر وضوحاً؟

-ليس ثمة قوانين ومعايير إجرائية محددة يمكن بوساطتها التمييز بين لغة سردية واضحة المعالم وأخرى غير واضحة المعالم: هناك نص مغلق يتعمد صاحبه الغموض والعبارات الالتفافية للإيهام بعمق مفترض غير موجود أساساً، وهناك نص سردي متقن ومنسوج بعناية وحرَفية يحترم عقل القارئ ويتوفر على قدر من الإمتاع والتخييل والكشوف ويلقى هوىً لدى القارئ الذي يراه نصاً مبتكراً جديراً بصفة الإبداع الرفيع، فإذا حصل هذا عندها يكون الكاتب قد أنجز شيئاً من مهمته عبر الحمولة الروائية سواء بتوظيف الأقباس المعرفية أو باعتماده أساليب وتقنيات سردية متعددة تستدعيها وقائع الرواية وتطور شخوصها وحوادثها في الزمان والمكان.

الرواية كعلاج

* استخلص من كلامك هذا بأن الكتابة عمل حساس..

-الكتابة عمل متفرد يكشف عن الخصائص العقلية والنفسية للكتّاب، وتعد الرواية النوع الأدبي المحبّب والأكثر جاذبية وقدرة على التجديد والتنوع اللامحدود في رصدها لأحوال المجتمعات وملاحقتها المعارف الحديثة وتأطيرها للنزعات البشرية المتنوعة واستفادتها من الحكاية والموروث الأسطوري والتطورات العلمية المتواترة، ولغنى العمل الروائي وتنوع مضامينه يمكن لبعض الروايات أن تكون علاجاً في حالاتٍ خاصة ومن بينها الاضطرابات الذهانيّة كحالة (الذهان الهوسي – الاكتئابيّ) تلك الحالة الشائعة التي تدمر حياة بعض الأشخاص وبخاصة أولئك الذين يتوفّرون على قدر عالٍ من الذّكاء والألمعيّة وتتسبّب حالتهم المرضية في إعاقة قدراتهم على نحو خطير، وقد حل العلاج بالرواية في بعض المؤسسات العالمية محل عقار (البروزاك) وهناك حالات موثّقة حكى فيها بعض كتّاب الرواية عن تجاربهم الشخصية وكيف أسهم انغماسهم في كتابة العمل الروائيّ على تخطّي الأطوار الصعبة من اضطراباتهم الذّهانيّة المدمّرة التي عجز عقار (بروزاك) عن علاجها برغم كونه العقار الذي أصبح سمة بارزة لثقافة العصر حدّ إطلاق اسم (ثقافة البروزاك) على الثقافة الغربية، وقد ذهب بعض الأطبّاء السايكولوجيّين إلى إمكانيّة اعتماد الكتابة الروائيّة كوصفةٍ علاجيّة – في حالات محدّدة بعينها- ،وربّما يكمن السبب في قدرة الكتابة الروائيّة على علاج الحزن وبعض الاضطرابات الذهانيّة في الطقوس الملازمة لعملية الكتابة والانضباط ومتعة التخييل التي يتطلبها كلّ جهد روائيّ وقد تؤدي كتابة الرواية إلى كبح التشويش الخارجيّ والضوضاء الصاخبة السائدة في مجتمعاتنا.
الترجمة توسع أفق الكاتب

* لنتحدث هنا عن دورك في مجلة الثقافة الأجنبية والترجمة عموماً..

-خلال عملي في مجلة (الثقافة الأجنبية) الفصلية العراقية ترجمت الكثير من النصوص الإبداعية وبعضاً من يوميات فيرجينيا وولف، ثمّ ترجمت رواية (بلاد الثلوج) للروائي الياباني الحاصل على جائزة نوبل (ياسوناري كاواباتا)، وبعدها رواية (فجر نهار مشرق) للروائية الهندية المرموقة (أنيت اديساي) ثم مجموعة من القصص القصيرة لنخبة من القصّاصين والروائيين من آسيا وأفريقيا والغرب، وبعدها تنوعت خياراتي الترجمية فاستهوتني السير الذاتية والمذكرات فترجمتُ من يوميات الكاتبة (أناييسنن) اخترتها من ستة مجلدات من يومياتها. عاودتُ نشاطي الترجمي بهمّة ونشاط بعد فترة من التوقف بحكم وضع اللا استقرار الذي شهده العراق بعد عام 2003 وكانت باكورة ترجماتي كتاب (حلمُ غايةٍ ما – السيرة الذاتية للكاتب الفيلسوف كولن ويلسون)، وأعقبته بكتاب (تطور الرواية الحديثة) للبروفسور الأميركي جيسي ماتز، وصدر لي في تموز الماضي كتابي الجديد (فيزياء الرواية وموسيقى الفلسفة)، حوارات مختارة مع روائيات وروائيين، وهو كتاب ضخم يتجاوز الستمئة صفحة ويحكي عن تجارب روائية مختلفة لكتّاب من جغرافيات بشرية متباينة شرقاً وغرباً، وظهر لي من قبل كتاب (أصوات الرواية) كهدية مع مجلة دبي الثقافية.

* ماذا عن هذه اللحظة، ما الذي تعملين عليه في الترجمة؟

-أعمل في الوقت الحاضر على مجموعة ترجمات، وأتمتع في التنقل بين أجوائها المختلفة، وكأني أحلق بين الأمكنة والأزمنة والمدن والأفكار والكشوفات. أكملت ترجمة كتاب (رحلتي.. تحويل الأحلام إلى أفعال) وهو نص مذكرات رائعة للشاعر وعالم الصواريخ والرئيس الهندي السابق زين العابدين، وأنجزت ترجمة معظم كتاب (وجوه الحبال ستة) الصادر عن جامعة أكسفورد، وكتاب (أحلام في زمن الحرب – مذكرات طفولة) للكاتب الكيني نغوغي واثيونغو، وكتاب (مقدمة كامبردج في الآداب ما بعد الكولونيالية)، وأيضاً ترجمة كتاب (الكتب في حياتي) للكاتب كولن ويلسون وهو من الكتب الممتعة، وكتاب (الأدب والعولمة – الانعطافات المعاصرة في الدراسات الأدبية) للبروفسور بولجاي، وكتاب (عن الحب – استعادة الحب الرومانسي في حياتنا المعاصرة) للفيلسوف الأميركي الراحل روبرت سولومون، ولديّ مشاريع مختمرة لترجمة كتاب عن (الواقعية السحرية والرواية ما بعد الكولونيالية)، وكتاب آخر عن (الرواية ما بعد الحداثية). أود الإشارة في هذا الموضع إلى مساهمتي الترجمية الأسبوعية المنتظمة في ثقافية صحيفة (المدى) العراقية وبعض المطبوعات الثقافية الأخرى، ويمكنني القول بوضوح أن الترجمة توسّع آفاق الروائي وتضيف ذخيرة ثرية من الأفكار والرؤى والخبرات إلى عدّته الروائية.