أطفال بلا جذور

1٬484

رجاء خضير/

الى الآباء ….الى الأمهات (( الذين اذا حضروا لايعدّوا واذا غابوا لم يفتقدوا )) الذين يتركون فلذات اكبادهم تتصارعهم أمواج الدنيا وتعصف بهم كيفما تشاء … لأنهم بلا جذور زيارة واحدة لأي دار للأيتام او دور المنظمات الخيرية تكفينا لأن نسطر منها مجلدات عما تحتويه من حالات ابناء بلا أمهات وبلا آباء او كليهما, فما اشــد قسوة هذه الحياة…

زرت احدى هذه الدور واقتربت من طفل يقارب التاسعة من عمره, وما أن بدأت الحديث معه حتى انفجر باكيا وبصوت متشنج قال :
لا أريد العودة الى أبي او البيت, فأنا مرتاح هنا, وهذه هي أمي واشار الى مديرة الدار, قبلته وأكدت له أن هذا لن يحدث مادمت مرتاحا هنا مع اخوتك وزملائك, أنا جئت الى هنا لأكتب عن معاناتكم وما مررتم به من شظف العيش وقسوة الأهل….

هدأ قليلا وارتاح بعد أن فهم سبب زيارتي للدار قال: أذن سأحدثك عما حدث معي ….

سبب معاناتي قسوة والدي معنا, لا سيما مع أمي فهو انسان سيئ يضربها كثيرا ويأخذ ما تحصل عليه من بيع الخبز او بيع بعض الحاجيات لنسوة المنطقة, يصرف النقود على النساء والشرب واللهو, وحينما يعود ليلا يريد الطعام الذي يرغبه فتقول له أمي : من اين آتيك بهذا الطعام وقد اخذت كل ماعندي من نقود, اسأل عن اطفالك هل أكلوا، هل شربوا، منها تبدأ الحفلة الليلية: صراخ وضرب وشتائم , الى ان تتدخل احدى جاراتنا الطيبات وتفض النزاع ليغط هو في نوم اهل الكهف… هذه معاناتنا اليومية. اما عندما تفتح المدارس ابوابها, فتبدأ جولة أخرى من العذاب والحيرة عند أمي كيف تتدبر مصاريفي ومصاريف أختي, واقترحت عليها أن أترك الدراسة واعمل وتكمل أختي دراستها, صرخت بوجهي وطلبت مني أن لا اكرر هذا الكلام…

مع الأيام بدأت أمي تهزل وكأنها تعاني مرضاً ما وتزامنت مع غياب والدي فترات طويلة عن البيت ولانعرف السبب. ومن شدة ضيق العيش والمعاناة, ذهبت أمي الى بيت جدي (اهل والدي) واخبرتهم بما يجري معنا, وكما في المرات السابقه تسمع نفس الكلام منهم, نحن لا نعترف به ابنا أنه ولد عاق, ولا فائدة من مجيئك الينا, تدبري امرك.

اشتدت وطأة الألم والمرض على أمي, واحتاجت الى ادوية وعلاج مستمر ما جعلني أترك الدراسه وابحث عن عمل هنا وهناك, مرة في المقاهي وأخرى في المحال, وقد افلحت في وجود عمل في احد المقاهي, ادخلت أمي المستشفى لاجراء التحاليل وايضا بدأت أرعى اختي في البيت، وهكذا تحملت مسوؤلية كبيرة وأنا بعد طفل.

في يوم اعطاني شاب ورقة نقدية لا أحلم بها لقاء أن احضر له الـ (الناركيلة) وانظفها بعد أن ينتهي منها, اسرعت الى أمي واعطيتها ما حصلت عليه, اخذتها بيد مرتجفة وقالت… انتبه من هذا الشاب كثيرا, حينها لم اعرف ما قصدته أمي بكلامها …أخذت بعض النقود واشتريت لأختي مستلزمات المدرسة ولأمي حجاباً جميلاً, ولكنها لم تلبسه لأنها دخلت المستشفى ثانية, وعادت مسوؤلية أختي على عاتقي …

حاولت الاتصال بوالدي لم أفلح, أخبرت جدي بما نعانيه بغياب أمي ورقودها في المستشفى وبغياب والدي, اخبرني بأنه غير قادر على مساعدتنا…
وهكذا كان ملاذي ومنقذي هذا الشاب الذي عرف عنا كل شيء. وهنا كانت بداية الانهيار… شجعني على شرب (الناركيلة) بعده ثم انظفها, اعجبتني كثيرا لأنها تنسيني ما أنا فيه وتعودت عليها.

في احدى زياراتي لأمي في المستشفى سألتني عما بي ولماذا هذا الشحوب, وهل انا مريض ؟؟

اكدت لها بأنني سليم لا اعاني من اي مرض, فقط من شدة التعب والجهد …

واستمررت في قبول ما يقدمه لي هذا الشاب من نقود وراحة نفسية, الى أن جاء اليوم الذي ذهبت فيه الى المقهى كالعادة، من بعيد رأيت تجمعا في المقهى الذي أعمل فيه وسيارات النجدة والشرطة كانت متواجدة ايضا وسألت احد المتجمعين عما يحدث, عرفني ونصحني بالهروب وعدم العودة الى هنا مرة ثانية لأن الشرطة قد ضبطت البعض يتناولون الكحول والمخدرات…. لم اسمع ما قاله ايضا, اسرعت الى أمي في المستشفى وحدثتها بكل التفاصيل, استغاثت باحدى الممرضات التي سبق وان عرضت مساعدتها لأمي, وطلبت منها أن تأخذنا أنا واختي الى احدى دور الأيتام كما اخبرتها سابقا لينتهي بنا المقام بهذا الدار.

ومن يومها نعيش أنا واختي هنا, نجد الرعاية والحنان والحب من الجميع, وبعون الله سأكمل دراستي أنا واختي لنساعد أمنا…

قلنا أنا والحاضرين ان شاء الله, ويتم شفاء أمكما …

إذن الآباء يأكلون العنب والأبناء يضرسون الحصرم .

حكايتنا الثانية قد تتشابه مع ما مر في الحكايه الأولى او قد تختلف بعض الشيء…فبطلتها طفلة في السابعة من عمرها وحكايتها على لسان مديرة الدار وكما مسجل في سجلها كالآتي :

هي الابنة الوحيدة لوالديها اللذين يختلفان كليا عن بعضهما, فالأب انسان كادح يعيش على الرزق الحلال, بينما الأم تعيش في اجواء غير سليمة، انتشلها من بؤر الفساد بعد معرفة بسيطة بها, وقد أحبها وأصر على الزواج منها رغم معارضة اهله لا سيما والدته ونصائح الاصدقاء, كان يرد عليهم أنه يريد الثواب بها… وهكذا تزوجها بالرغم من عدم رضا الجميع. كانت مطيعة له في بداية الأمر, تلبي له ما يريد لا تخرج ولا تتصل بأي من صديقاتها, كما نصحها هو, وما هي الا شهور واصبحت أما لطفلة جميلة, ومنها بدأ يلاحظ تغيرها تجاهه، اما طفلتها فتتركها ساعات دون أن ترضعها او تعتني بها، وكثيرا ما نبهها الى ما اصابها من تغير لاسيما تجاه الطفلة, تؤكد له أنها غير معتادة على الاعتناء بالأطفال ….

وكثيرا ماكان يسمع صراخها قبل ان يفتح باب الدار وحينما يدخل يرى طفلته تبكي, والأم مستلقية على الفراش تتحدث بــ (الموبايل), نهرها وحثها على رؤية ما حدث للطفلة, تقوم بكسل واضح تغير لها وتعطيها الرضاعة, وتعود لتكمل حديثها , سألها بمن تتصل و … و … , تؤكد له بأنها لا تتصل بتلك الصديقات السيئات, بل هي جارة قديمة لنا : كان يحس انها تكذب ولكن خشية على طفلته لا يواجهها, وفي يوم سمعها تتفق مع الصديقة بأنها ستأتي ليلا عندها، سحب الهاتف منها ورماه ارضا وصرخ بأن لا تخرج من الدار أبدا سواء بحضوره او بغيابه، ولكنها خرجت ومنها بدأت الخلافات تنخر العلاقة الزوجية بهما, وتذكر نصيحة والدته ووصفها لها بأنها زوجة غير صالحة, وايضا نصائح الأصدقاء, ولكن لاينفع الندم …..

وفي مساء احد الأيام لبست وتزينت وهمت بالخروج، منعها وتوعدها إن خرجت لن تعود الى البيت ثانية ولكنها جاءت فجرا تتطوح من السكر والرذيلة لتراه جالسا قرب طفلته التي ارضعتها جارتهم ونظفتها, صفعها بقوة واخرجها من البيت وسط ضحكها واستهزائها بحياتها معه, رمى عليها يمين الطلاق فصرخت (هذا ما أريده منك لا أريد سجنك ولا الاهتمام بأبنتك).

ثم ذهبت ولم تعد ابدا …

وفي هذه الفترة فقد والدته التي كانت عونا له في الاعتناء بالطفلة التي لا ذنب لها … لذا نصحه الأصدقاء والأهل بالزواج، اقتنع ولكنه فوجئ انه يرفض كلما تقدم لفتاة بسبب هذه الطفلة التي امها ( ! ) واحتار بالأمر, وجاءت نصيحة صديق له أن يدخلها دار الأيتام ويكمل هو حياته, وفعلا ادخلها الدار وهي ذات الأربعة اعوام من عمرها, تزوج هو ورزق بطفلين, وبين فترة وأخرى يزورها … الا أن زياراته بدأت تتباعد الى أن انعدمت ولم يعد يزورها. ومن الحاح الطفلة على رؤية والدها, سألوا عنه ليعرفوا أنه قد وجد فرصة عمل في احدى الدول فسافر هو وعائلته , اما ابنته فقد تركها للنســيان.

اما هي فكانت دائمة الانتظار لاسيما في موعد زيارة الأهالي لأطفالهم …

لم تعرف أن من انجباها الى الحياة نسيا أن لهما ابنة … عاشا حياتهما اما هي فلم تزل بالانتظار.

هذا مايحدث في واقعنا المرير, واذا تعرفنا على هذه الحكايات فهناك مئات المئات مثلها بل والأقسى معاناة وقسوة.

اتساءل: هل يصح ان يكتب هكذا آباء وامهات في سجل الوالدين الذين تحدث عنهما القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة, التي قدست الوالدين …..
مثل هؤلاء الآباء والأمهات هم كالأنعام بل أضل منها …