الكوميديا تُبيّض وجه “التحرّش” المُجرَّم قانوناً!

372

آمنة عبد النبي /

دونجوانٌ وسيمٌ مُشيطن، أو فقاعة نجومية قبيحة.. لا يهم، تصنعهُ السينما التجارية بطريقةٍ دراميةٍ غريزية قائمة على ضربِ مفاتن المرأة وجرّ شعرها وتدليعها ببذاءةٍ داخل النص، لا يطالهُ النقد مهما مرّر من خبثٍ وتحرشٍ تحت يافطة الكوميديا المُحبّبة طالما يُبيّض وجه “التحرّش” الذي جرمّه القانون بالمُزحةِ ويُعيد هيبتهِ داخل الشارع بجعلهِ سلوكاً كوميدياً طريفاً وخالياً من عقدِ الكبت الذكوريّ!
تُرى من الذي سمح لثيمةِ الفلمِ الخادشة وأبطاله بالدخولِ إلى بيوتنا والتلاعبِ بإعداداتِ العقول وتخريبها بحجةِ التنوير والانفتاح، وما سرّ تحويل السلوك المنحرف والمرفوض اجتماعياً وقانونياً الى كوميديا ناعمة وأساسية في البطولةِ؟ علماً انّ نظرة مُعتقة لرموز الكوميديا بالأبيض والأسود لا تجد فيها أيّ توظيفٍ للتحرشِ في تسويقِ المزحة، وما حكايةُ الفقاعات النجومية المُبتذلة التي تصنع داخل المطابخ السياسية لإسقاط الخصوم أو تنويم الشعوب درامياً؟!
نجومية وفقاعات
“ثيمة الفيلم لها الحق بالدخول الى عوالم المُحرمات وطرحها بصورة معرفية تنويرية، لكن الإشكالية المُهينة تكمن في آلية المعالجة التي جعلت جسد المرأة دلالة كوميدية لإثارة الغريزة ومحاكاة الكبت الذكوريّ”.. هكذا بدأ الممثل والمُخرج العالمي المُقيم في الدنمارك جمال الحسيني حديثه باسترسال:
محاكاة الحرمان الذي يعاني منه المتلقي -الرجل العربي- حسب نظريتين: الأولى شباك التذاكر، والثانية (الجمهور عاوز كده) وما ذكرتِه هو نمط سائد في السينما المصرية والسورية، ولاسيما في البدايات وإلى وقت قريب، بحيث أصبحت هذه التفاهات الآن لا تلاقي أي اهتمام بعد أن غزا الإنترنت والفضائيات العالمية والنتفلكس البيوت، وأصبحت أفلام (البورنو) في متناول الكل، وحتى الأطفال. إضافة إلى ذلك، فإن مفهوم النجومية لدى العرب مختلف عن معنى النجومية في هوليود وبقية دول العالم، في بلاد العرب -ومصر تحديداً- هنالك نجوم شباك جرت صناعتهم من خلال أفلام تحاكي الممنوع والمقدس وغير المألوف والنقد السياسي، وماهم في النهاية إلا مساعدو السلطات الحكومية، بل وتتعكز عليهم الحكومات، علماً بأنهم فقاعات، إلا ما ندر، لأن النجم العربي تجري صناعته من خلال أدوار الحب والغرام والقُبل والمايوهات والاغتصاب والضرب على المؤخرات، لأنه ليس أكثر من لعبة بيد المنتجين لأغراض تجارية، والأفلام هي عبارة عن مدارات السلطات الحاكمة، والرقابة تمنع الخوض في مسائل واقعية وحقيقية تلامس مشاكل الناس، لذلك لم يبق لدى المنتج غير الجسد والإغراء والجنس لاسترداد المبالغ التي صرفها بعد أن حوّل النجم العربي الى أراجوز يستغل فقط لإشاعة الضحك والسخافة والسذاجة ولترويج الجنس، إذن الفنان والمنتج هما ضحايا سلطات قمعية تخنق غالبية وسائل التعبير، ومنها السينما، لذا لم تبقَ لنا سوى (المؤخرات) للتعبير عن همومنا.
ولو عدنا إلى السابق سنجد الممثلات العربيات، ونأخذ مثلاً: ناهد شريف وسعاد حسني ومديحة كامل وشمس البارودي، قمن بتجسيد أدوار فيها جرأة كبيرة، كانت تعد في حينها -ولحد الآن- من الأدوار القوية، ولم تتم الاستعانة هنا بكومبارس للتمرنِ على الدور الحميمي، لأن الكواليس ليست للمشاهد والناس والصحافة، بل هي أشياء تخص المهنة، فقبل أي شيء نحن نرى الفيلم بصيغته النهائية للعرض، وإذا كان الفيلم او الدور يحتاج مشاهد ساخنة تقوم أغلب الممثلات بتجسيدها وبحرفية عالية، لأن الموضوع ليس خاصاً، والأفلام ومواضيعها تخضع الى الرقيب والمنتج والدول التي تقوم بعرضها، وكل دولة تعمل على إجازة الفيلم بناء على معطيات الرقابة التي لها دور كبير في تطور صناعة السينما، نحن مازلنا نعمل ضمن حدود رسمتها الأنظمة والرقابة ومفرداتها.
تابو وانحدار
“منسوب الانحدار الدراميّ نحو تسويق التحرّش، كمزحةٍ مشبوهة ومستستاغة، يعود إلى الفهم الخاطئ داخل النص الدرامي للحرية وإلصاقها عنوةً في كسر التابوهات، او الممنوعات الاجتماعية”.. هي وجهة نظر الممثل والمخرج المسرحي، الذي كانت له بصمة درامية على مسارح وشاشات السويد، باسم الباسم، مكملاً:
أعتقد أن هذه الموجة التجارية المُبتذلة ستنحسر او تختفي ويتم استبدالها، البوادر هنا يُمكن ملاحظتها او لقطها من خلال السينما العالمية التي تتجه نحو تقويضها من الأفلام الغربية نتيجة محاربة هذه اللقطات من قبل نجمات ونجوم كبار، علماً بأن التحول يجري باتجاه إبراز المثلية الجنسية في الأفلام والمسلسلات (وهذا موضوع آخر).. وعليه يمكن اعتبار أن تلك المؤشرات العالمية سوف تفتح باباً باتجاه الشرق لحذف الابتذال من شاشاتنا العربية، لأننا نقلد الغرب في كل التفصيلات، فسوف تعتبر هذه اللقطات غير مقبولة لدى الذوق العام ربما، وما أود الإشارة له أيضاً هو أنني أراها واضحة، بل أكثر، في دراما المسرح المبتذل، ومن خلال متابعتي لاحظت أن نسبة كبيرة من هذه الفرق المشبوهة مستمرة في تسويق ما يحط من شأن القيمة الدرامية الحقيقية للمادة، وأتحدث هنا عن أكثر أقطار الوطن العربي، ففي كل بلد نرى أن هناك مجموعة من الفرق المسرحية تنحو هذا المنحى، والعلاج -في رأيي- مجتمعي أكثر مما هو قانوني او درامي لأنه يكمن في تكبير عدسة الرقابة الاجتماعية ومقاطعة حضور تلك الأعمال.
تخريب وانحدار
المُشرف على شبكة الإعلام في الدنمارك، الكاتب رعد اليوسف، اعتبر -من جانبه- أن السينما العربية ماكرة حينما أدركت حجم العقد لدى الشباب والكبت والانحراف، فتعاملت مع جسد المرأة بشكل تجاري للأسف مستعينة بأجساد شبه عارية لا تحترم الفن ولا تؤمن برسالته السامية.. مكملاً بامتعاض:
الفن رسالة ترسيخ ثقافة اجتماعية وإنسانية تحرر المجتمع من قيود التخلف، ولاسيما في غياب الفنانين الكبار عربياً، وهو ما نراهُ واضحاً ومعكوساً في كواليس نجوم المزحة المشبوهة اليوم مثل عادل إمام، أبرز المسيئين، الذي ضرب مؤخرة سيدة المطعم في “حنفي الأبهة” وعانق أخت الضابط بعد استعطافها وهو يقصّ عليها حكاية خيالية في ذلك الفيلم، تلك السلوكيات التي مُررت إلى الشارع تحت غطاء المزحة ولم تثر في دواخل المشاهدين سوى الضحك، علماً بأن الكوميديا العربية قديماً، بالأسود والأبيض، كانت تنطوي على احترام يليق بالمرأة ولا يتاجر بجسدها الذي كان يظهر بالمايوه دون أن يجرؤ أحد على المساسِ به في الشارع، كذلك لدينا السينما الأوروبية ورصانتها، والمجتمع الأوروبي الذي لا يواجه مثل هذه المعضلة الدرامية، فعلى الرغم من ثقافة الحريات الفضفاضة، إلا أنه لا يستهدف المرأة كجسد، بمعنى أن السينما الأوروبية تبحث في صياغة موضوع المرأة كإطار وقضية لا تتعلق بالتجارة ودر الأرباح، ما يجعل توظيف ذلك في الدراما محالاً، غير أن كوميديا التحرش اليوم تعد تخريباً متعمداً لقيم وذوق كانا سائدين في المجتمع، وسبب هذه المشكلة يكمن في حجم العقد التي تسكن الجسد العربي وتفترسه بشكل وحشي، ومهما سوقوا من أفكار مُهينة لجسد المرأة فلا أحد بإمكانه قبولها او السكوت عنها، وما تزال مرفوضة اجتماعياً، ولاسيما من قبل النساء لما تنطوي عليه من قلة ذوق وخدش للحياء.

ثقافة وانسحاق
“لدينا قاعدة مُثبتة في علم النفس تنص على أن تكرار المُثير ينهك ويضعف الاستجابة، وهذا ينسحب على كثير من الأمور في الدراما والسوشيال ميديا والحياة، باعتبار أن الاستجابة تضعف، وبالتالي فإن تكرار الصورة يجعل الفكر يتقبلها كنوع من التطور والانفتاح وخفة الدم”..
بهذا التحليل السايكولوجي حول سرّ قبول الوعي الجمعي لتلك الصور السلوكية الهجينة، فككت د.ندى العابدي أصل العلّة، قائلة:
علّتنا تبدأ من قضبان المجتمع الشرقي الذي تعاني فيه المرأة من جدب عاطفي صامت واحتياج ملح لعاطفة الرجل الذي تُلغى لديه صورة الدونجوان أوتوماتيكياً باعتبارها معاكسة لنمطية الرجولة والخشونة، وبالتالي البيئة الصلبة والثقافة العرفية السائدة التي تربى عليها، حتى لو كان في داخله يتمنى أن يكون دونجواناً، فسوف يواجه بالرفض اللاشعوري، لذلك تظل المرأة متعطشة للصورة المختلفة عن صورة هذا الرجل الذي تشاركه بيئتها الشرقية، وهنا تنشأ تلك العقدة النسوية لقبول كل ما يصدر من بطل الشاشة، او فتى الشباك، سواء على مستوى النساء كفنانات او كعامة الشعب، بل حتى الرفض المُبطن لبعض الفنانات هو خوف من خسارة الجمهور لا أكثر، لأن الفنانة هي جزء من تلك البنية الاجتماعية، لذلك تجدينها تارة متحفظة وتارة أخرى قد تعاني ضعفاً من الوقوع في حب البطل من طرفٍ واحد، وهو في كل الأحوال مؤذٍ لها. وفي ما يخص الفارق الفني ما بين الأمس واليوم، أنا أعتقد أن الثقافة المجتمعية واختلاطها بالثقافات الأخرى ينعكسان قطعاً بالدراما، في زمن العمالقة والرواد لم يكن هنالك تلميح او إيحاءات جنسية لتسويق تلك الأمور، بل حتى ثقافة المُزحة ذاتها اختلفت عما في السابق، لأن ما يضحك الناس في زمن اسماعيل ياسين او شكوكو لا يضحكنا اليوم، لأن إطار المزحة اختلف وإطار التعامل مع المرأة يختلف في زمنٍ كان فيه الفن مُزدهراً بقيمٍ عليا منبثقة من قيم المجتمع، لكن في وقتنا الحالي انحسر الكثير من القيم والمبادئ والذائقة الفنية برمتها، لدينا اختلاط غير مدروس و (الجمهور عاوز كده)، السينما أصبحت تسوِّق للناس ما يحبون لأنها تجارية بحتة لا علاقة لها بالذائقة الفنية..