فاطمة الكلابية “أم البنين”.. السيدة التي منحت مهجة روحها لطفِّ الحسين “ع”
آمنة الموزاني /
فاطمة الكلابية “أم البنين”، درس لا تعلِّمه المناهج ولا بحوث التربية الحديثة أو القديمة، عن دور زوجة الأب وتعاملها مع أبناء ضرتها، هو درس من التربية المحمدية التي نشأت عليها هذه السيدة منذ أن دخلت بيت النبوة زوجةً للإمام علي (عليه السلام) بعد وفاة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فكانت منبعاً للنقاء والشهامة، عُجنت بأخلاق وتقوى وطهر آل بيت النبي .
جدتي “تدبارة” طَيّبة وروح نقية مثل خضرمةٍ فَيروزيَّة مُذهَّبة، لم تكنُ تعرفُ القراءة ولا الكتابة لكنها تُهيّس القران، وتُجيد صلابة الإبقاءِ على الفقدِ خالداً لدرجةٍ أنه كلما كان حلَّ عاشوراء تَلف عُصَّابَتها وشَيلتها البريسم المُطينّة كايّةِ جنوبيةٍ باللَّوعة والحزن الكربلائي، وفي ساعةِ الغروب ترسمُ بمَجسّاتها النقيّة داخل المُخيلة سرادق مواساةٍ تُقيم فيه ماتمها الفَقِير لاستقبالِ مُعَزيات مولاتها الغائبة.
“احّاه يا أم البنين”..
كانت جدتي مُومنة تماماً بانّ أفضل ماتفعله في هذه الحياةِ هو البكاءُ، نحنُ ابناءَ القَهْر والممسوسين به، لم يرفق بنا حتى الموت الذي اعتاد خطف أحبتنا، لذلك كنتُ أجد صعوبةً في التفريقِ ما بين أنين جدتي تدبارة، وعرفانيّة أم البنين.
هي التي ظلت عشرون عاماً منكوبة بدشداشتها العَتِمة على فقد عمّي (محيْسن) ممسوسة به وتنْشد علياً (ع) بحنيّتها الرائبة:
..”محيْسن حدر التراب يبو الحسن، عينك عليه”
لم تكن تنام الا على فراشٍ ممسوح وتلتقي صويحباتها بالثكلِ أم البنين، كلما شمّت صوت التراب ومُهْجة الطفِّ الخالد “حمزة الصغير” ناعياً:
“يُمَّه ذكريني، كلما تُمر زفة شباب..”
ولأن الولِيدات “فتشت” عيون الأمهات، والمكان الوحيد الذي يخاف الموت أن يتسلّل اليه مكشوفاً، لذلك فإنّ المنطق يتعطل تماماً ويجثو على ركبتيه قُبالة عرفانيّة بنْي كِلاب “أم البنين” وضرّة الزهراء(ع) والامّ التي كانت تُربي بزرَها وتحرسه مثلما تحرس العصافير فراخها، وهي موقنة بانهم أضاحٍ موجلة على التربان لأولادِ “شريچتها”، ما بزَّها قلبها ولا عصرتهُ الـ “يُمَّه اصمله” وهيَ تورشف على رفوفِ الأمومة حَبْوَ وليداتها الرضَّع ونحورهم بذاتِ الطريقة، وليس هنالك عقل يستوعب كيف لم تختنق بهزّةِ الكاروك والدلّلول وشدَّات العلو، لاسيّما وانَّ الأمومّةَ صفة بيولوجية، والأمهات حارِسات حتى بعد رحيلهن، تبقى أرواحهن تنتظر على الأكتافِ، وإذا لَمحت إحداهنّ ملك الموت يفتحُ كيسه صرخت: قف هذا ولدي..
يا الهي، من أين جئتِ بهذا النبل، العبّاس توذّر، وأنتِ تُرَوبين دموعك لتختمر بكلِ هذا العنفوان المَهيب، وحينما جاءكِ الناعي بشرّ يرتجف لم تستحضري حتى وهنكِ كثُكلى، وإنما نشغت:
اشْصبّر الراس اعله رمحه وما نزل
بعينه من شاف الشِّمر سوطه يلوح
بمتن زينب.. شلون عباس احتمل
وهُنا، قد يضع أحدنا تفسيراً بوهيميّاً لهذا الإيثار السماويّ الذي توزَّعه بموجبِ شَارَةِ العصمة، لكن المُفارقة أنها بدون شَارَة، وإنمّا مجرد امرأة ربّت فطرتها على النقاوةِ كزوجةِ أبٍ لأولادِ الزهراء وكأمّ مُضحية باولادها، وسمَت روحها عن مغانمِ الطبيعةِ البيولوجية وتقلباتها كاية امرأة تسعى للاستئثارِ بقلبِ زوج ضرّتها عليّ (ع)، أو حثِه على تقريبِ النار لخبزِ أولادها كما كانت “زبيدة” تَشق العلاقة ما بين هارون وابنه المامون لصالحِ ولدها الأمين، أو كما تمنَّت والدة معاوية بن يزيد حينما خلع نفسه عن الخلافةِ، فلعنته مشمئزةً بقولها:
ليتك كنتَ حَيضة فلم تُخلَق..
اذن، كَبس زرِّ الاختبار الأخلاقي على مرِ الأزمان هو الحقيقة الوحيدة التي تَفرز صوراً نجيبة وأخرى مُشوهة ما بين نسائنا اللواتي يُشبهن أم البنين في الحالةِ الاجتماعية، ويناقضنها بالعدائيةِ في السلوك، ولاسيما اللّواتي يمارسن يومياتهن من تحتِ مظلّةِ عاشوراء أو ممن ينصقلن ظاهرياً بمرثياتها، كما تقول المختصة بمجالِ البحث الاجتماعي (د.ندى العابدي)
التي كانت مومنة تربوياً كنتاج طبيعي للبيت الذي نشات فيه وهو الأسرة النجيبة بكرمها وشجاعتها ونبلها، لذا فإن السلوكية بتعاملها، وبكلِ ما تحمله من عطف وإيثار، برزت من بداية دخولها للبيت كزوجة أب، ليس في الطف فحسب، وبخصوص قضية حزنها على الحسين (ع) قبالة أولادها الأربعة، فقد كان الشجن جزءاً من ولائها العقائدي، والإمام علي(ع) قام بتهيئتها لهذا اليوم، لذلك تجدين أن الفشل والتعنيف اللذين صارا علامة فارقة عند نسائنا كزوجات أب لا يختلفن عنها بالمرتبة البيولوجية، أسبابه مرتبطة بالتربية التي تنشا داخلها المراة والبيت الذي تتربى فيه، فإذا كانت بنتاً لأمٍ تنظر للرجل على أنه جزء من ممتلكاتها وأن أطفاله حينما يكبرون سوف يزاحمونها على الإرث، هنا البنت قطعاً ستكتسب تلك النمطية البشعة، لأن الأم هي المسوولة عن رسم صورة الرجل وتنميطها في عيني بناتها، وبالتالي فإن شخصيتها ستكون مُقلدة، وبتراكم الصور السلبية على مرّ الأزمان ستنشا ثقافة التوارث التي لا تتقبل فيها المراة وجود أخرى أو أولاد في حياة الرجل.
سلاح غريزة الأمومة يُمنح للمراةِ فطرياً لا اكتسابياً، هذا ما تعلمناه بالفطرة، أي انّ الفارق ما بين الأمومة البيولوجية والبديلة هو كذبة اخترعتها الشريرات)، كما يقول المدون الصحفي (حيدر الجريخي).)
تتبعي رسّ البيوت التي تربّت فيها النماذج النسوية السيئة او دوّنها التاريخ مثل والدة معاوية وغيرها، بالمقارنة مع رسّ شهامة وخُلق البيت الذي تربت فيه السيدة “فاطمة الكلابيّة”.. الفارق ببساطة ما بين الضرّة المجرمة عن النبيلة هو فارق تربوي، وأنا اخشى من تمدد حالة الام المجرمة لأن ما نشهده من جرائم هي بالأصل لطفلة نشات في جوٍ تربوي موبوء ولا قيمة للحلال والحرام ولا القدوة بحياتها، لذلك كان الشرّ كافياً لإنتاج شخصية عدوانية ملوثة تضطرب فيها الفطرة وتتلوث من خلال التربية الفاسدة والحرام السائب، لذلك تجدين النزعة الانتقامية لزوجات الأب تنحصر في أذية وقتل ابناء الزوج انتقاماً من الزوج نفسه.
مما لا شك فيه أن كل صور عاشوراء مُفجعة، مُشجية، لكن تجريد المواقف من بعدها العقيدي، لن يجدي نفعاً سلوكيّاً الاّ بحدود الشكليات الموقتة، بحسبِ ما يعتقده الشيخ (مازن المطوّري):
لن تصلّ أيةِ امراة -زوجة اب- لما وصلت إليه أم البنين (ع) مهما قدمت من عبادات دون أن تنكر ذاتها وتومن إيماناً كاملاً بعقيدة الطف السلوكيّة وتصدق النيّة مع ربها كما صدقت السيدة (فاطمة الأسدية)، وهو ما يصعب على الكثيرات جهلاً وعمداً، لذلك لا أستغرب كمَّ الجرائم والتعنيفات التي تصدر من زوجات أبٍ مسلمات، لأن عقيدة الانسان لا تنفصل عن حياته وما يتفرّع منها من اشمئزاز ونفور وقرب وصلة ووصال وعنف، كل ذاك نتاج الشعور المتاثر بافكار الانسان وعقائده، وهكذا الحال في عاطفتنا تجاه الامام الحسين (ع) وقضيته وشعائره، فهو ليس عاطفة وحبّاً مجرّداً من البعد العقيدي والفكري وانما عاطفة مشبعة بالعقيدة.