في الدراسة والعمل والزواج خيارات الأبناء.. قرارات شخصية، أم فرمانات عائلية

433

فكرة الطائي /

كثيرا ما يلوم الأهل أبناءهم على سوء اختيارهم في حال فشل ذلك الاختيار، سواء أكان في الزواج أم العمل أم الدراسة أم السفر، ولا يأخذون في الحسبان الظروف التي أدت إلى ذلك الفشل أو السعي لمعالجتها من أجل إنجاح تلك الاختيارات التي يراها الأهل خاطئة، فيما يراها الأولاد صائبة.
حدثني (ي. ع)، الذي رفض الحديث باسمه الصريح، عن ارتباطه بعلاقة حب مع زميلة له في الكلية وأنهما اتفقا على الزواج بعد التخرج، لكنه لم يكن يعرف بتخطيط الأهل، ولاسيما الأم وعزمها على تزويجه بابنة خالته التي لم يكن يكنّ لها سوى مشاعر أخوية، على الرغم من أنها كانت تتودد له، يقول: “إن أصرار الأهل على هذه الزيجة كان سبب فشل الزواج، وانتهينا إلى الطلاق لأنني لم استطع أن أنظر لها على أنها زوجة رغم أن ذلك مثبت على الورق، فقد بقي هذا الحاجز قائماً، ولم أقترب منها أو ألمسها أكثر من سنة على الرغم من احترامي لها.”
ويتذمر (أحمد، طالب في المرحلة الإعدادية) كثيراً وهو يستعد للامتحانات النهائية، فهو دائماً في صراع مستمر بين أن يحقق رغبته أو رغبة أهله، إذ أن الطلبة الذين يجبرهم أهلهم على خيارات لا يريدونها يكونون في الغالب متوترين مشدودي الأعصاب، بينما الطلبة الآخرون لا يعانون هذا الصراع، فهؤلاء يفكرون في النجاح من أجل تجاوز هذه المرحلة والذهاب إلى الجامعة حسب المعدل المتحقق، وهم أكثر استرخاء من زملائهم.
سفر فاشل وزواج ناجح
قال لي (أحمد أبراهيم حبيب) إنه لم يستجب لاختيار أهله في الزواج بل أصر على اختياره الخاص، “كان قراري في اختيار زوجتي هو الأصوب وهو سر نجاحي في حياتي الأسرية، وحمدت الله على تلك النعمة، وذلك لا يعني خروجاً عن طاعة أهلي، بينما فهم أخي الأصغر الأمر هكذا، حين قرر السفر إلى خارج العراق على الرغم من اعتراضات الأهل وعاد بعد سنة فاشلاً بعد أن نفدت مدخراته كلها وعاد إلى بيت الأهل ليفكر من جديد بمشروع مغاير.”
المُجدُّ يُكرمُ في الامتحان
حدثتـني السيدة (زينب علي، أم لولدين وبنت) قائلة: “لن أقبل لابني الثالث، الذي هو الأصغر أن يكون مستواه أقل من مستوى أخيه وأخته، أذ لابد أن يكون مثلهما أو أحسن منهما.” قلت: لماذا هذا الإصرار؟ فأجابت: “هذا ليس إصراراً، أنا أرسم لهم خطوات مستقبلهم، وابني زيد لا يختلف عن أخيه حامد وأخته رؤى، فقد وفرتُ له مستلزمات التفوق في الدراسة أكثر مما وفرت لأخويه، لأن ظرفي المعيشي الحالي أفضل من السابق بكثير.” قلت: وهل تجدين “زيداً” قادراً على تحقيق حلمك؟ فقالت: “أتوسم فيه ذلك من متابعتي له مع الدروس الخاصة وتفرغه التام للدراسة.”
لن أقلق كثيراً
توقفت عند محطات كثيرة مع السيد (عادل العبيدي، أعمال حرة)، فقد ذكر لي: “أن الأوضاع اختلفت كثيراً عما كانت سابقاً – يقصد في زمنه – فقد كنا في السابق نخشى عدم تجاوز هذه المرحلة لأننا نساق إلى الخدمة الإلزامية لنكون حطباً للحروب، لذلك كنا نصر على تجاوز هذه المرحلة والذهاب إلى الجامعة وهناك نطيل من عمر بقائنا بعيداً عن الحروب وويلاتها، أما اليوم فهذا القلق والخوف والخشية من المصير المجهول لا وجود لها في حياة الطالب، إذ لا خدمة الزامية في الجيش ولا جبهات قتال على الحدود، لذلك لا أقلق على مستقبلهم، فأنا يفرحني أن يعيشوا حياتهم كما يحبون بيننا بعيداً عن المصير المجهول المظلم الذي عشناه وخشيناه، ولا أفكر لهم بل هم يفكرون والوطن يحتاج الاختصاصات كلها في الدوائر الرسمية أو سوق العمل الحر.”
عزلة تامة
(محمد علي نعمان، طالب مرحلة أولى، هندسة معمارية) قال إنه فرض على نفسه عزلة تامة، ولم أستغرب كلامه هذا، فقد سمعت ما يشبه ذلك وأشد منه، وكأن في الأمر اتفاقاً مسبقاً بين العوائل على عزل أولادهم في الأشهر الأخيرة قبل خوض الامتحانات النهائية، فقد قال لي “إن الأشهر الخمسة، التي سبقت موعد الامتحان النهائي، كانت من أصعب الأشهر التي مرت في حياتي، وأنا أتحدث عن أشهر العام الماضي التي خضت فيها الامتحانات النهائية، فقد فرضت على نفسي طوقاً من العزلة التامة عن الأصدقاء والأقارب بل حتى أفراد العائلة، وسلمت هاتفي الخليوي إلى والدتي وبقيت مع كتبي وملازمي فقط، وها أنا اليوم فرح بإنجازي إذ دخلت القسم المعماري في كلية الهندسة على الرغم من معدلي الذي كان يؤهلني للقبول في المجموعة الطبية، لكن هذه كانت رغبتي ولم يعترض أهلي على ذلك.”
أحب تحقيق رغبة أهلي
(يحيى كريم) بدا أنه الولد المدلل عند أهله، فحين سألته عن الاختيار في الزواج، قال لي: “تركت هذا الأمر لأهلي.” قلت: ألم يكن لك رأي في ذلك؟ فردّ عليّ باختصار: “أنا أحب أهلي وأحب أن أحقق رغباتهم وسعادتي أن أدخل الفرح إلى قلوبهم.”
الرغبة والقدرات
لا بد لنا في نهاية المطاف أن نسمع القول الفصل من أهل الاختصاص، إذ يقول (الدكتور سعد خضير العبيدي – باحث أكاديمي في التربية وعلم النفس): “إن تحديد اختيارات الأبناء من الأهل أمر صعب وفي غاية الخطورة على الرغم من أهميته في تحديد مستقبل الأبناء أو مصيرهم في الزواج والعمل والسفر والدراسة، وعلى سبيل المثال لا الحصر مع اقتراب الامتحانات الوزارية للمراحل المنتهية يستعد أولياء الأمور من الآباء والأمهات للضغط على الأبناء من البنين والبنات لتحديد التخصصات التي يريدون لهم أن يُقبلوا فيها، ما يعرض كثيراً من الأبناء لأن يعيشوا صراعاً نفسياً مؤلماً، إذ ثمة أبناء لا يملكون قدرات عالية للحفظ والاستنتاج العلمي، ولاسيما في الطب الذي يعتمد التشخيص أولاً، وبعضهم لا يستطيع حتى رؤية الدم ولا أن يمسك مشرط التشريح، ومنهم من هو مولع بالهندسة والطيران وعلوم الكيمياء وغيرها من التخصصات.”
قلت: هل يحقق ضغط الأهل الأهداف المطلوبة؟ فأجاب: “قد يفلح في نجاح بعضهم، لكن من يعاني من الصراع فإنه سوف يتعثر في مسيرته الحياتية عامة والدراسية خاصة، ولا يحقق مستوى متقدماً في مجال تخصصه، في حين لو أُتيح لهم الاختيار حسب رغبتهم وطموحاتهم، فيمكن أن يبرز من بينهم علماء في تخصصهم، فإرغام الأبناء ووضعهم في حالة صراع بين رغباتهم ورغبات الأهل يدفعهم إلى العيش تحت الضغوط التي تستنزف طاقاتهم النفسية وقد تجعلهم تُعساء.”