“منغولي”وبشرة سوداء وتأتأة كلامية أطفال السخرية المجانية!
اية منصور/
قد يفكر البعض بالتحليق كالعصافير هرباً من هذا الكوكب الخشن، وبحثاً عن اي وطنٍ بديل أو بالأحرى عشٍ آمن لبشريته، فقط يعامله الآخرون بصورة طبيعية أو كما يتشابه معهم في الانسانيّة على الأقل.
مهزلة النبذ المجتمعي أو عقدة الانتقاص والسخرية والاستغلال لمن ولدوا بعين حولاء، او بتأتأة أثناء الكلام، أو لون بشرة داكنة، أو ربّما عاهة ولادية غريبة،
أصحاب تلك الاختلافات الجبريّة صاروا يدفعون ثمن عيوبهم اللااختيارية من قهقهات الكبار قبلّ الصغار لدرجة اضطروا فيها اخيراً الى عزلِ انفسهم، او الابتعاد عن عيون الناس وقساوتها.
متلازمة مجتمع داون
والدة الطفل “محمد” الرائع والوسيم جدا، والذي كان يحاول وصف المجرة -كما اكدت لي- بكواكبها ونجومها بالاستعانة بيده التي تشير الى سقف الغرفة. فيما الضحكة التي تخفي عينيه لاتفارقه، تروي لي معاناتها الشخصية، وليس محمد، بتقبل الاساءات وتجنبها عن مسامع صغيرها، حيث تقول: بالكاد استطيع اخراجه الى الشارع رغم حاجته كطفل للعب، لكنني اشعر بغصة كلما استمعت لمجموعة من الصبيان وهم ينادونه (منغولي) واتمنى حقا لو انه لايستمع، برغم عدم فهمه للكلمة، إلا ان أثر العبارة وحده له ألم خاص، في الحقيقة أحيانا افكر بالتحدث معهم كي يلعبوا مع محمد أو اشرح لهم انها حالة مرضية ولكنها ليست معيبة، لكني اصطدم بالواقع حينما اجد كبار السن يتحدثون بالسخرية حيثما شاهدوا طفلا بهذه الملامح.
وتكمل ليّ (ام محمد) وهي تمسد شعر محمد الاشقر فيما يلعب بعددٍ من الدمى المرمية من يدِ جارة لها منعت ابنها من التقرب لمحمد: في طبيعة الحال وكأي جيران، ازورهم أحيانا لغرض الاطمئنان عليهم ولقضاء الوقت، لكني تفاجأت بجارتي التي تخبئ صغيرها كلما حضرت وجلبت معي محمد الذي كنت أخذه ليندمج قليلا، وكنت كلما اسألها تضع ليّ حججا وهمية لعدم خروجه، حتى واجهتني في المرة الأخيرة قائلة (بانها تريد لصغيرها ان ينضج وينمو مع أشخاص طبيعيين) عندها ايقنت انها متلازمة مجتمع بأكمله.
محمد الذي يبلغ الخامسة من العمر، تساعده والدته في التعليم، ولا تفكر بادخاله رياض الأطفال أو المدرسة، والاكتفاء بتعليمه في المنزل، تضيف والدته: لم ولن نشاهد طفلا مصابا بمتلازمة داون يدرس في مدرسة اعتيادية، ليس لكونه يحتاج الى تعليم خاص، بل لأننا لا نحترم هذا الكائن ولا نملك وسيلة سوى تهشيم ما متبقى منه صاحيا. بعض الأهالي تفضل ابقاء أطفالها على جهلها على ان يتعرضوا للتجريح والضرب والشتائم. ايمكننا تخيل هذا فقط؟ وتؤكد ام محمد ان محمد لن يسلم ولو لثوان معدودة في الشارع، حتى يتعرض للسرقة أو الضرب أو السخرية المؤلمة وهذا ما يدفعها لابقائه حفاظا عليه، لو انّ هنالك ١٠٪ ممن يحتويهم أو يتعامل معهم بطبيعية، كنت سأتحمل تنمر الـ ٩٠٪.
متلازمة داون
رئيس التحرير الزميل جمعة الحلفي يقول أنه يحتفظ لهؤلاء الأطفال المصابين بمتلازمة داون بعاطفة خاصة لأنهم غالبا مايكونون ودودين وغير عدوانيين. ويضيف أنه طالما تعرف على مثل هؤلاء الأطفال في فترات متباعدة قائلا: “كان لدي صديق سوري تعاني شقيقته الصغيرة من هذه الحالة وكنت اهتم بها وأجلب لها الهدايا كلما زرتهم فكانت تطير من الفرح وكانت تسأل عني عندما اغيب مع أنها لم تكن تستطيع لفظ أسمي إلا بصعوبة”.
ويذكر الحلفي أنه أجرى مايشبه الحوار مع الفتى (فرج) وهو مصاب بالمنغولية ومعروف في منطقة الكرادة، وعند سؤاله عما إذا كان يتعرض لأذى من الآخرين نفى ذلك وقال أنه يحب الناس وهم يحبونه أيضا. وفرج لايشكوا من اية مضايقات على حد قوله، بل هو مرح ويرقص كلما سمع موسيقى، الأمر الذي يلفت انظار المارة من الناس فيتعاطفون معه.
وعن أصل تسمية هذا المرض بـ (المنغولي) يقول الحلفي أنها تعود الى العالم الأنجليزي (جون داون) الذي شخص هذا المرض بوصفه نوعا من الاعاقة الذهنية وأطلق عليه اسم منغولي بسبب السمات المشتركة بين المصابين به وبين الأشخاص من العرق المنغولي.
والطريف في الأمر، كما يضيف الحلفي، أن الحكومة المنغولية اشتكت لدى الأمم المتحدة في الخمسينات وطلبت منع استخدام الاسم لأن فيه نوعا من الإهانة للشعب المنغولي، لكن بالرغم من ذلك ظل الأسم يستخدم حتى في الكتب الطبية.
الحولّ جزء مني
يشير لي بيده متساءلا عن عدد الأصابع التي يشير بها نحوي فأخبره بانّها خمسة، يضحك ويقول (لا انّها عشرة، ثم يخبرني انها طريقة أقرانه في المدرسة للضحك عليه).. مرة مرتان فعلوها معي بطلب ان اخبرهم كم عدد الأصابع لكني كنت اجيبهم بما أراه فعلا لكوني ارتدي نظارة طبية تساعدني على الرؤية بوضوح بنسبة جيدة حتى وان كانت عيناي متبعادتين.
والد اسامة الذي يعدل نظارته ويطلب منه ان ينتزعها يسألني: اليس جميلا..لأجيبه..جدا
قصة اسامة بدأت حينما أصابه الحول نتيجة لرفع احدى عينيه طويلا ومرارا وتكرارا أثناء القصف، كان القصف قويا للغاية في الحرب، ولم نكن نملك ادنى وسيلة لاخفاء الصوت المرعب عنه. حاولنا اصلاح الأشكال الذي حصل لعينه لكن دون نتيجة، نما اسامة ولا يعلم ان عينه ضحية حرب، وانه حالما يكبر سيحصل على مئات الاهانات من اقرانه وسيبدو “ضحية” السنتهم مجددا.
يؤكد والد اسامه، ان الأخير يشتكي من عدم اهتمام أو مراعاة المعلمات له، أو الاعتماد عليه حتى في بعض الأمور البسيطة لإعطائه حافز الاهمية. وهنا قاطعنا اسامة: باستثناء ست نور!
يكمل والد اسامة، الذي يؤكد كذلك ان ولده يجلس في الرحلة الأخيرة فلا يرى شيئا بالعادة:
نوهت في كثير من المرات بضرورة جلوسه في المقاعد الأمامية فلم يستجب ليّ احد سوى معلمة العربي نور، التي تجلسه في الصف الأمامي عند درسها. فعاد اسامة ليخبرني بسر أبكاني:
أريد الابتعاد من هنا الى أي مكان آخر
-وان كان كوكبا؟
-المهم ان لا اتعرض للسخرية فيه!.