آخر الأزواج

717

حسن العاني /

أشهد –وليس أحد أصدق شهادة مني، أو أكثر معرفة بها، لأنها أمي –بأنها ليست الفاضلة الوحيدة، فمثلها عشرات النسوة، وليست الوحيدة التي تباهي بحسبها ونسبها ومكارم أخلاقها وجمالها الفاتن وطيبة قلبها وتاريخ (عائلتها) الذي يسبق التاريخ، فمثلها من النساء كثير، ولكنها تنفرد مع قلّة قليلة من الأخريات، بكونها ورثت عن أسرتها العريقة الشيء الذي يفوق التصور والخيال من الأموال والعقارات والبساتين والزرع والضرع ما جعلها مطلب الجميع وأمنيتهم وحلمهم، سواء أكانوا طامعين أم طامحين، كما جعل الأنظار تلاحقها والقلوب تهفو اليها. غير أن أمي، على ما وهبها الله من جمال ونعمة وخير ومجد، كانت تعاني من نقطة ضعف آذتها، فهي امرأة ليّنة ضعيفة بسيطة، لا يرقى الشك الى قلبها، وتحمل كل كلمة تسمعها على محمل الجد، وأهم شيء في حياتها أنها قنوعة لا تنشد من دنياها غير زوج صادق مخلص أمين، يؤانس وحشتها ويحمي وحدتها ويصون إرثها، فكان لها ما أرادت بمحض المصادفة.. تزوجتْ من شاب في مقتبل العمر، لا أحلى ولا أنبل ولا أرق منه، وسليل أسرة كريمة الأصل والحسب والنسب، وكأن الأقدار ساقتها إلى ذلك القدر الجميل، غير أنها لم تهنأ بالبقاء معه سوى سنوات قلائل حين أودت بحياته رصاصات غادرة.
وقبل أن تضمد جراحها ويذبل حزنها، تزوجها عنوة رجل قال عنه من قال إنه قاتل زوجها، وإنه رجل غريب لا يخلو من غموض وإن كان يقسم على براءته من أي دم وأية جريمة قتل.. أمي بدورها أكدت وحلفت اليمين، أن زوجها بريء فعلاً، وأثبتَ أنه إنسان متسامح يعفو حتى عن الذين يسيء إليه، ولا يعرف الحقد، وكان –لو قُدّر له البقاء- قادراً على تعويض أحزانها وكفكفة دموعها وإسعادها، لولا أن عصابة أردته قتيلاً بعد أقل من خمس سنوات على زواجه..
والدتي مسكينة، فقد أمسى اسمها نذير شؤم وعنواناً لقتل الأزواج، ومع ذلك مازال الآلاف يتدافعون لطلب يدها، وهكذا تشاء المصادفة أن يتزوجها من جديد زعيم العصابة الذي أمر بقتل زوجها الثاني، ومضت حياتها على هذا المنوال حتى بلغ عدد أزواجها خمسة ما بين قتيل أو محترق، أما الخامس فتعددت روايات الناس في موته.. ثم جاء سادس الأزواج، وهو رجل يجمع بين “القرية والمدينة”، وقد ظنّتْ أنه عزّ الطلب، هو من سيرعاها ويحميها، والحق فقد أبدى لها في سنوات الزواج الأولى من معاني الرجولة ما دفعها الى التعلق به، إلا أنه ما إن استتب له الأمر ونال ثقتها حتى أثبت غير ذلك، فهو لم يأخذ من القرية طيبتها بل أخذ تخلّفها وعنجهيّتها، ولم تمنحه المدينة حضارتها وثقافتها بل منحته حيَلها وألاعيبها، وهكذا كَشَفَ عن وجهه الحقيقي فسامها العذاب وسقاها كأس الذل وسيطر على إرثها وعاث في الأرض ظلماً وفساداً. وفي ليلة من ليالي مَجونِه اغتصب فتاة من الجيران وتزوجها بالإكراه، وهي دون أمي منزلة وتاريخاً وجمالاً وثراءً.. ولكن الظلم في قانون البشرية لا يدوم وكذلك انتهى سادس الأزواج متهماً بألف قضية وقضية قادته إلى الموت.. ثم أتى النصيب بالزوج السابع، وهو الأخير.. رجل صرف حياته خارج البلاد، بل كان في الحقيقة أجنبي المولد والجنسية والتربية، وَعَدَها بأن يوفر لها الأمن والأمان، ويعوضها عن متاعب العمر، ولكنه اشترط أن تُنفق عليه وعلى جماعته الذين اصطفاهم لحمايتها. ولأن الرجل كان صريحاً وواضحاً فقد صدّقته أمي ووافقت على شروطه، وهنأت معه بشهر عسل جميل، إلا أن الأشهر الأربعة الأولى على الزواج لم تكد تنتهي حتى كشف الرجل عن هويته، فقد انقلب وجماعته رأساً على عقب، وتسابقوا على مائدة أمي ينهشون الهَبرة واللّحمة والعظمة والفتات، وقتلوا وسرقوا وفاضت خزائنهم وهي تستغيث وتصرخ وما من مجير، وأقسمت أن لا تتزوج مرة أخرى، وأن تواجه الرجل وجماعته.. وهكذا طلبت الطلاق من سابع الأزواج، إلا أن القاضي حكم عليها بالخضوع إلى بيت الطاعة..