أباطيل منمّقة وأكاذيب ملفّقة!

692

عامر بدر حسون/

سُجن الكاتب أبو اسحق إبراهيم الصابئ على يد عضِد الدولة بسبب آرائه وكتاباته، وقد كثر عدد من توسطوا له من اجل إطلاق سراحه، فقال عضد الدولة:
“إن أراد الصابئ الخروج من سجنه فليصنّف مصنفاً، اي يؤلف كتاباً، في أخبار ومدائح آل بويه”!

لم «ينصح» بهذا شخص من حاشية السلطان، بل قاله السلطان بنفسه، وذهب الأصدقاء لصاحبهم ينصحونه بتأليف الكتاب فهو الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يخرج بها من السجن، وزودوه بالمصادر، وهي كتب كتبت في بيت السلطان، فوافق مرغماً وشرع في العمل ليل نهار في مؤلفه المعروف «التاجي». وكان عضد الدولة ينتظر الانتهاء من عملية «إعادة كتابة التاريخ» هذه كي يرى ما يفعل فيه.

***

وزارهُ في السجن أحد جواسيس المعتضد، وسأله عما يفعل؟ فتأمل صاحبنا في سجنه وأوراقه وقال:

“إنما هي أباطيل أنمّقها وأكاذيب ألفّقها”!

ولعلّ هذه الكلمات ترسم صورة الكثير مما نسميه تاريخنا، فأغلبه كتب بين الترهيب والترغيب. وعندما نقلت هذه الكلمات إلى عضد الدولة غضب وأصدر أمره بقتل الصابئ سحقاً بأرجل الفيلة!

وبعد العذاب وطول السجن والتوسط استبدل العقاب بالنفي حتى الموت!

***

والحقيقة أن الكثير من أمهات كتبنا وضع في السجون، حتى صار لدينا أدب اسمه أدب السجون.

في العام 2000 ألقيت محاضرة في جمعية حقوق الإنسان في العراق بدمشق، عن سجناء الرأي عبر التاريخ، ووقعت بين يدي بالأمس، فهالني عدد الكتّاب والفقهاء والشعراء وحتى العلماء الذين كتبوا مؤلفاتهم في السجن.

وبتقديري فإن إعادة النظر في المؤلفات التي وضعها كتابها في السجن هو أمر لابد منه، فالسجن ليس مكاناً طبيعياً لإصدار الأحكام، حاله حال التأليف في بيت السلطان. وسيعجب القارئ كلما رأى أن أغلب قيمنا وأحكامنا المتطرفة هي نتاج اشخاص كتبوا مؤلفاتهم في السجن.

وعندما ترى الى الفكر المتطرف في يومنا هذا ستجده مما كتب في السجن، حيث يتطرف الإنسان في معتقداته (كما هو الحال مع الفتاوى المتطرفة لابن تيمية) او يتنازل فيوصي بطاعة السلطان.

ويختلف سجن العالم عن سجن صاحب العقيدة، فالشيخ الرئيس ابن سينا عندما دخل السجن نظر الى الجدران والحراس، فقال شعرا:
«دخولي باليقين كما تراه / وكل الشك في أمر الخروج»!

وبعد تقريره العلمي هذا، وبدلاً من التذمر من السجن انصرف للتأليف، فكتب فيه كتاب «الهدايات» و «رسالة حي بن يقظان» و «رسالة القولنج» وغيرها.

والغريب، وربما الخطير ايضا، ان جميع أئمة المذاهب الإسلامية تعرضوا للسجن وكتبوا فيه احكامهم واجتهاداتهم:

الإمام أبو حنيفة والشافعي وابن حنبل ومالك وابن تيمية، وسجن الإمام موسى الكاظم 15 سنة ومات في سجنه مسموماً!

وأعود للصابئ الذي اختصر بكلماته محنة الكتابة العربية، وأسال القارئ: هل ان ما يقرأه اليوم يختلف عما كتب آنذاك بين قصر السلطان وسجنه؟
أعني: الأباطيل المنمقة والأكاذيب الملفقة؟