أخرس أطرش أعمى!!
حسن العاني /
لعل العناية الواضحة التي يوليها عدد كبير من الكتّاب والمحللين السياسيين في ميدان المقارنة، وأحياناً المفاضلة بين قادة العراق وكبار مسؤوليه منذ قيام الدولة العراقية الحديثة قبل مئة سنة تقريباً، تستحق الاحترام والتقدير كلما اتسمت بمزيد من الحيادية والموضوعية، بغض النظر عمن يقول بأن الدافع الرئيس وراء تلك البحوث والدراسات قد لا يخلو عند بعض الكتاب من دوافع آيديولوجية، أو وسيلة للعيش ولقمة الخبز.. ومن هنا يطلع علينا أحدهم بمقارنة تجمع الملك فيصل الأول وعبد الرحمن محمد عارف في كفّة، بينما تضع رعيل القادة الأوائل في كفّة أخرى. وهكذا تدخل المقارنة او المفاضلة، ونقاط الالتقاء والاختلاف عشرات الأسماء والعناوين البارزة على غرار (نوري السعيد، الملك غازي، ياسين الهاشمي، جعفر العسكري، أحمد حسن البكر، صدام حسين، عبد الرحمن البزاز، ناجي طالب، عبد الرزاق النايف، رشيد عالي، سعدون حمادي) وغيرهم.
بعيداً عن ذلك كله، ومن وجهة نظر شخصية، فإن واقع الأمر في العراق، والمشهد العام للأحداث، يفيد بأن القضية أكبر بكثير من أن تكون نتاج هذه الشخصية او تلك، وأن هذه سيئة وتلك جيدة، على الرغم من الإقرار بوجود الفروق وصحة المفاضلات ولو بصورة نسبية. وبالتالي فالحكم للتاريخ، لأنه الوحيد القادرة بملء إرادته أن ينصف فلاناً أو يلعن فلاناً أو يحدد دوره وتأثيره على وفق سلوكه وسيرته الذاتية..
الخلاصة التي يمكن الركون اليها باطمئنان: أنها قضية (أنظمة) توالت على حكم البلد منذ تأسيس الدولة العراقية في عشرينات القرن الماضي حتى عام (2003). وعلى الرغم من أننا لا نختلف مع القائلين بأن هذا النظام (نسبياً) أفضل من ذاك، وهذه الشخصية أقدر من تلك، ولكن هذا لا يغيّر من الحقيقة الأكبر، او الكلية التي تذهب الى أن هذه (الحقبة الزمنية) التي امتدت الى أكثر من ثمانين سنة، قد انجبت أنظمة اتفقت فيما بينها، عن غير قصد، على تكبيل الشعب وإيذائه حتى أصبح (لا يسمح ولا ينطق ولا يرى) وكأنه مصاب (بالصمم والخرس والعمى) -وهي أسوأ ثلاثية يمكن أن تمر بها الشعوب، بغض النظر عن كون المرحلة التي قادها صدام حسين ما بين 17/7/1979 لغاية 9/4/2003 لأنها الأكثر سوداوية ولأن الرجل لم يكتف بمثلث الرعب (السمع والنطق والرؤية)، بعد أن رفع لافتة (ممنوع) في كل مدينة وقرية وشارع وزقاق، وفي الداخل والخارج على حدّ سواء.. ممنوع على العراقي الكتاب والستلايت والانترنت والموبايل والتفكير وحرية التعبير والرأي والمعتقد والتظاهر والاعتصام والسفر والإبداع و(الرسم والشعر والغناء-الا في تمجيده) وتمادى في ممنوعاته، حتى بات (التأفّف والتأوّه) من حرّ الصيف أو كثرة الحروب جرائم ترقى الى مستوى الخيانة العظمى يعاقب عليها القانون بالإعدام!!
إنها، بأكثر العبارات إيجازاً، قطيعة تامة عن حركة العالم والعلم والحضارة والتطور، وإنها الأبواب الموصدة عما يجري في غرف النظام وفي زنزاناته الانفرادية ودهاليزه المظلمة، وبذلك فَقَدَ الشعب حاسة السمع وقدرة النطق، وقبل ذلك أصيب بالعمى التام حيث لا مسرب نور ولا بصيص ضوء..
زلزال من العيار الثقيل هو الذي حدث في نيسان 2003، فاذا الدنيا غير الدنيا، والعراق غير العراق، استعاد المواطن “الأصم” سمعة حتى بات يلتقط حتى الهمسة السرية بين سياسي وسياسي في قاعة محكمة الأبواب والشبابيك والمنافذ، واستعاد “نطقه” وحريته الى أبعد من أبعد مدياتها، فاذا به يتظاهر ويهتف ويعتصم ويبكي بمرارة ويضحك بسفاهة ويسرق ويقبل ويرفض ويعترض من دون رقيب يحصي عليه أنفاسه، أو سكين تقطع لسانه، إلا أن معاناته الوحيدة والأشد مرارة، حتى هذه اللحظة المباركة من عامنا المبارك، مستمرة مع (العمى) وفقدان البصر، ولهذا مازال ينادي في أوقات الصلاة وفي الليل والنهار، بأعلى صوته: يا أولياء أمورنا إذا أكلتم مع (العميان) فكلوا بإنصاف!!