أسعد عام!!
حسن العاني /
الشيء الأكيد إن الامبراطورية العثمانية وسلاطينها، لم يكونوا أفضل حالاً من الامبراطوريات الأخرى التي امتهنتِ الاحتلال، وأقامتِ المستعمرات، فقد أغفل السلاطين العثمانيون عن جهلِ وضعفِ كفاءةٍ وقلةِ درايةٍ في أمور السياسة والادارة، النظرَ في طبيعة الشعوب التي خضعتْ لنفوذ امبراطوريتهم، نظرةً موضوعية، وهل كان بمقدور إمبراطورية “الرجل المريض” أن تكون غير ذلك، وقد كَثُر فيها الدجالون والمشعوذون والأميون والجهلة، وتراجعت أعداد المهندسين والمعماريين والأطباء والعلماء.. ولذلك تساوى كل شيء عندهم، فلم يراعوا تركيبة كلَّ شعب وخصائصه وخصوصيته التي ينفرد بها، ولم يقيموا وزناً لعاداته وتقاليده ومزاجه وتكوينه النفسي وتاريخه وإرثه وتراثه.. وهذه أولى أخطائهم وأعظم خطاياهم، ومن هنا كانوا يرسلون ولاتهم الى هنا وهناك من البلدان الخاضعة لهيمنتهم كيفما اتفق، ومن دون تقدير لكفاءة الوالي الإدارية وقدراته السياسية ومقبوليته الشعبية، وقد أدى سوء الاختيار هذا -كما هو متوقع- الى وضع “الوالي وشعب ولايته” في أسوأ الحالات التي شهدتها تواريخ الحكم على مر العصور.. حتى صارت مضرب المثل!!
ضمن هذه الوقائع والأجواء وصل الوالي العثماني الى العراق وتولى حكمه، وهو يجهل كل شيء عن البلاد، التاريخ والجغرافية، وعن العراقيين بما في ذلك لهجتهم ودلالات مفرداتهم العامية، وماذا يحبون وماذا يكرهون، وكيف يحبون ويكرهون.. وهكذا ما كادت تمضي أربعة أشهر على ولايته، حتى ضاقتِ الناس به ذرعاً وراحت تسخر منه في مجالسها العامة والخاصة.. ثم شكّلتْ وفداً من عيون بغداد ووجهائها.. وسافر الوفد والتقى (السلطان) وطلب منه تغيير الوالي، وحين إستفسر عن السبب، قالوا له بصريح العبارة “يا حضرة مولانا السلطان.. هذا الوالي لا يحسن اللغة العربية ولا اللهجة العراقية، ولذلك حين يتكلم معنا أو يخاطبنا بمفرداته الغريبة علينا، لا نستطيع منع أنفسنا من الضحك.. وفي أغلب الأحيان لا نفهم ما يريد!!”..
تأمّل السلطان الطلب وقلّبَه على وجوهه فرآه مشروعاً ومقبولاً، وهكذا أبدل الوالي بوالٍ جديد يتحدث العربية الفصحى والعامية العراقية بطلاقة، غير أن الناس ضاقتْ به ولمّا تمضِ على ولايته ثمانية أشهر.. وهكذا سافر وفد الوجهاء ثانية والتقى السطان وطالب بتغيير الوالي الجديد، وهو الأمر الذي أثار استغراب السلطان ودهشته، وحين استفسر عن السبب أجابوه “نشهد يا مولانا إنه ضليع بالفصحى، عارف بالعامية وإشاراتها ومعانيها، ولكنه يعاني من عَوَقٍ شديد في ساقه اليمنى، وعندما يخرج الى الشارع، ويتجول في الأسواق ويتفقد أحوال الرعيّة، لا نستطيع منع أنفسنا من الضحك” وتساءل السلطان “هل تفعلون كذلك مع كل من يعاني من عوقٍ في جسمه؟!”، ردّ عليه كبير الوجهاء، “لا يا مولانا.. لأنه لو كان من عامة الشعب فالأمر لا يعني شيئاً، وفي البلد مئات الأنواع من العوق.. ولكنه مسؤول، العيون تنظر إليه وترصد الصغيرة والكبيرة من حركاته وتصرفاته، ثم تسخر وتقول والينا كذا.. فما الضير يا مولانا السلطان لو جعلت علينا رجلاً سليماً معافى؟!”، ورأى السلطان إنهم على حق، وافق على الطلب وأرسل والياً جديداً بعد أن تأكد من سلامة صحته وسمعه وبصره ونطقه ولغته ولهجته وصوته وصومه وصلاته..
مضت سنة كاملة على الوالي الجديد ولم يحضر الوفد لمقابلته، فتنفس الرجلُ الصعداء، واطمأن الى حسن اختياره، وإنه تجاوز مشكلة والي العراق.. ولكن مع مطلع العام الجديد فوجئ السلطان بوصول الوفد مطالباً بتغيير الوالي، وحين استفسر وهو في غاية العجب عن السبب، أجابوه بصريح العبارة “أطال الله عمر السلطان العراقيون لا يحتملون شخصاً يحكمهم أكثر من سنة.. لقد ملّوا وضاجوا ونفروا من خلقته التي يُصبحون عليها ويمسون”، تأمل الرجل طلبهم وأمعن الفكر فيه، ثم أصدر فرماناً يقضي ببقاء العراق بدون والٍ مدة عام كامل.. ويُقال إن العراقيين لم يهنأوا منذ ذلك التاريخ وحتى يومهم المبارك هذا، بعام أجمل ولا أحلى ولا أسعد من ذلك العام!!