أغنيات من دم!
بيان الصفدي /
يقول أحد الشعراء:
“لأي جانب مالت كفة النصر
لكن الأكيد أن هناك في الجانبين قلوبَ أمهات كسيرة!”
الحرب ينتصر فيها الحزن والدم والأشلاء، والسلام دائماً فرصة البشر ليرمِّموا حياتهم، ويحققوا أحلامهم الصغيرة والكبيرة، ومن سوء حظ العراق أنه أُدخلَ في حروب حمقاء عدة أكلت الأخضر واليابس فيه، حتى أنها أكلت غناءه المشهود له بالتميز والأصالة.
معروف أن العراق غني بتراثه الغنائي بأشكاله، فما إن عشت في العراق حتى تعرفت أكثر، وعن قرب، إلى تلك الأصوات التي حملت شجن الناس وفرحهم في بلاد الرافدين، وكأن بعض النوح الشفيف الذي يصدح من حنجرة كثيرين امتداد لأغانٍ سومرية وبابلية أطلقها عراقيون في وجه الألم، فأنشدوا للحياة والجمال والصداقة والحب والفرح والألم والنخل وماء النهرين. لا أنسى الرهبة التي ملأتني عندما استمعت أول مرة إلى أغنية “يا بن آدم” لحسين نعمة في السيارة التي حملتني من ساحة الصالحية إلى شارع المغرب في الوزيرية:
“يا بن آدم دادا بهيده على بختك/ لا تِعتْ بيها/ روحي انحلت والشوك ما بيها/
ما جنها ذيج الروح يبن آدم/ ولا جنها كلها جروح/ والشوك ما بيها”
لكن هذا الحزن الجميل -إن صح التعبير- كان مرافقاً للمعنى العميق الذي يغلِّف كل غناء أصيل ومبدع في كل مكان، ففي الحب حزن من فراق وهجر، وفي الزمن لوعة مروره.
وفي ألحان قادمة من هور أو جبل أو بادية في غناء ريفي أو غناء مديني أو غناء راسخ تحس أنك معه في بغداد الرشيد وزرياب على يد عمالقة المقام العراقي، وأذكر أن الصديق المرحوم محمد شمسي كان يقول لي إن غناءنا في العراق يشبه النخيل، فهو قوي وشامخ وأخضر، لكن يهزه الحزن فيتمايل سعفه كأنه أيدي مودّعين أو أمهات أو عشاق مهجورين.
الغناء العراقي عاش لعقود منغمساً في بهجة الطبيعة وحزنها، وفي ألم العشق وفرحه، يعكس مشاهد الوطن وناسه الحقيقية، من ناصر حكيم وصديقة الملاية وداخل حسن ووحيدة خليل (عليمن يا قلب تعتب عليمن) حتى حضيري أبو عزيز ولميعة توفيق وعفيفة إسكندر وزهور حسين ورضا علي (تدري شكد أحبك) وسليمة مراد الصادحة:
“على شواطي دجلة مر/ يا منيتي وكت الفجر”
أو: “هذا مو إنصاف منك/غيبتك هلكد تطول
الناس لو تسألني عنك/ شرد اجاوبهم شكول”
أو زهور حسين عندما تؤكد لنا:
“تفرحون أفرحلكم/ تحزنون أحزنلكم
روحي تتعذب كبلكم/ أحبكم أحبكم”
وعفيفة اسكندر:
“حركت الروح لمن فارقتهم”
فجأة وبعد سنوات قليلة كان المشهد الغنائي يتلوَّث بأغنية مصنوعة تحت الترغيب والترهيب، فبدأ الأمر بأغاني الحزب، ثم أغاني القائد، ثم حلَّت كارثة الحرب، فأنزلت الجميع بالقوة إلى وحولها.
أخذنا نرى مغنين وملحنين كانت لهم مشاريعهم الجميلة بدأوا ينزلون في مغطس المجهود الحربي الذي تسوِّقه السلطات يوم تحتاج إلى من يقرع الطبول حولها، وتحشد الهازجين في عراضات الحقد وتقديس الحاكم الذي لن يتورع عن قتل من كتب فيه يوماً:
“كوجه الله ينضح بالجلالِ”
انطلق جنون الغناء للحرب، ولهذه المهمة حشدوا كل المطربين والمطربات في الساحة العراقية من مائدة نزهت إلى صلاح عبد الغفور وقتها، وفي هذا السيل الهادر رأينا الجميع وقد لبسوا الملابس العسكرية، وظهروا في التلفزيون كالدمى في حشد واحد كئيب، بينما كانت شلالات الدم تتدفق، وأعزُّ الأزواج والآباء والإخوة يغيبون استشهاداً أو أسراً أو قتلاً واعتقالاً، بينما حلقات الفرح الكاذب معقودة بعيداً عن الجميع!
كان اللامرئي مباشرة في المشهد دموع الأمهات في مهرجان الجنون الذي طحن أجيالاً من العراقيين.
لم تنسَ السلطة في مهرجانها الدموي أن تلاحق من فروا بجلودهم مثل: كوكب حمزة وفؤاد سالم وجعفر حسن وشوقية العطار وغيرهم، بل تقتل المطرب صباح السهل، ثم تستدعي كل من بقي، حتى من المطربين الذين منعتهم من الظهور من قبل في وسائلها الإعلامية، فرأينا (س ح) بملابس الجنود يحدو المعركة مع أنه من قبل متهم بأنه مطرب هابط خاص بسيارات النقل، وحتى المطرب (ف ع) الذي اعتزل الغناء وتصوَّف واختار إكمال دراسته، فقد جلب إلى الخندق الوطني جبراً لينشد للقائد والمعركة، وقد حدثني قريب للمطرب (ح ن) أنه عتب عليه لظهوره في أكثر من أغنية تعبوية، لكن ذلك المطرب أجابه:
“وليش ما أغني؟ مو أحسن ما أقعد بزنزانة كلها دم!”
حرب الطغاة لا تقبل إلا أن تضع الجميع في المستنقع أو تغرقهم فيه، وقد تختفي فيها أو تختنق أو تكاد تضيع آهات نابعة من القلب تقول:
“مابيَّ عوفن هلي وما بي عوف هواي
قلبي نسيته هناك يا هو اليدوره وياي؟”