أمل الشرقي

270

بيان الصفدي /

أظن أنني بعد أن عملت لعام أو أكثر بقليل في مجلتي والمزمار، التي تحولت إلى مديرية ثقافة الأطفال، قبلها كنت قد تعرفت بأمل الشرقي، فقد طلبتني من خلال الفنان الصديق علي المندلاوي لأكون ضمن فريقها الذي يتهيَأ لإصدار ملحق (تموز) للأطفال، الذي صدر عن جريدة الجمهورية بعد ذلك، وكاد ينافس مجلتي والمزمار بسبب نوعية الكادر الفني والتحريري الذي اختارته أمل الشرقي، هذه المرأة النجفية المثقفة الطالعة كالمزهرية من بيت عراقي نجفي طليعي نهضوي هو بيت الشاعر الكبير علي الشرقي.
ذهبت إلى (أم مصعب) في غرفتها بدار الجماهير في باب المعظم وقد ضمت باقة مميزة من نجمات مثقفات العراق: ابتسام عبد الله ود. سلوى زكو وأمل الشرقي.
أحسست أنني في حضرة أختي الكبيرة، الجمال العراقي الساطع، والابتسامة العذبة التي لا تفارق شفتيها، والجدية الصارمة في شؤون العمل مع حنوِّ الأم المحنَّكة ورقَّتها، والقدرة الفائقة على الإدارة والتمييز والمتابعة، مع ذائقة أدبية لافتة، وثقافة لغوية وأدبية واسعة.
كلفتتي وقتها بالمساعدة في تدقيق المواد، ورفد الملحق بنتاجي، إضافة إلى المهمة الدائمة، وهي كتابة افتتاحيات الملحق التي وضعت لها اسماً ثابتاً هو (تموز يقول لكم).
كنا المدلَّلين لديها، أنا وعلي المندلاوي ومنصور البكري، ولا أذكر أنني كنت برفقة أمل الشرقي أعمل عملاً رسمياً، بل واجباً جميلاً لأخت لا تكفُّ عن صناعة المفيد والنبيل في كل ما تقوله أو تفعله.
وإلى الآن ما زلت أعجب من وجود سلوى زكو في تلك الغرفة وهي تتحدث بهدوء ومرح مع أنها معارضة قد تلاقي الموت في أية لحظة بحسب الجو العام تلك الأيام.
وكاد أن يحصل جفاء بين مجلتي والمزمار وبين تموز بسبب انحيازنا للتعاون مع أمل الشرقي، ولاسيما أن جميع المساهمين في الملحق هم من كادر مجلتي والمزمار، حتى عندما حصل سوء فهم عابر بيني وبين الصديق فاروق سلوم، اخترت بعده ترك العمل، وسرعان ما أعانتني السيدة أمل على أن أكون في تموز على المكافأة الشهرية، وبما يعوضني خسارتي في مجلتي والمزمار مادياً –لكن بعد شهر، وبطيبته المعهودة، صالحني الصديق فاروق سلوم وظل امتيازي في تموز قائماً-.
خلال أشهر بعدها تحوَّلتْ رئاسة تحرير مجلتي والمزمار إلى مديرية ثقافة الأطفال، ثم إلى الاسم الثابت (دار ثقافة الأطفال) وجرى تعيين السيدة أمل الشرقي مديرة عامة لها، ما زاد من ابتهاجنا، وأذكر أمراً لغوياً طريفاً حصل في مسألة “هل يُكتبُ المدير العام أم المديرة العامة،” وكان أن دافعتُ عن رأيي بأن المدير العام صفةً لأنثى تعصبٌ ذكوري، وانتصر رأيي، ومالت إليه السيدة أمل بمحبة مع أن مصححين لغويين عُتاة رأوا في ذلك انتهاكاً للعربية الفصيحة!
لا أذكر أن أدنى خلاف قد حصل بيني وبين السيدة أمل، وكنت مع قليلين ممَّن يجلسون معها يومياً جلسات عمل، فقد كانت مثالية في عملها، ذات ثقافة شاملة، وأمَّاً ومربية ومترجمة، ومستنيرة ذات أفق حضاري، متواضعة مع أنها من سلالة سادة وأثرياء ومسؤولين، وزوجها عبد الجبار محسن! فلم تكن لنا مديرة عامة فقط، بل الأخت الكبيرة التي تهتم بتفاصيل شؤوننا وحياتنا، وتتدخل إذا ما طلبنا عونها في مشكلة ما لدى جهة عامة.
أتذكر بحنين مقدار الثقة التي أولتني إياها في العمل، فقد كلفت بأكثر من مهمة، وكانت تستشيرني في أكثر من إشكال له طابع إبداعي بخصوص عمل مقدَّم إلى الدار، ولا أنسى أنني كنت السبب في نشر مجموعة كريم العراقي الأولى (سالم يا عراق)، فقد تعهدت بتصحيح أخطائها، ودافعت عن نشرها لما فيها من بساطة وجمال وطفولة، بعد أن رجح الرأي أن تُرفَض، وعلى إثرها انعقدت صداقة بيني وبين الشاعر الذي وصله ما جرى وقتها عرفاناً بالجميل.
وعلى الرغم من الحنوُّ الواضح في شخصية السيدة أمل إلا أنها كانت تتحوَّل إلى امرأة حديدية في وجه الكذب والخطأ، وأظن أن الزملاء لن ينسوا يوم ضربتْ المخرج بـ”شلَّاق” عقاباً لإهمال فادح في العمل.
حتى عندما غادرت العراق ظللت على صلة بها بالمراسلة وهي في الأردن، أستشيرها في أموري كأخت حكيمة غالية، وأطمئن على حياتها وعطاءاتها الثقافية.
أمل الشرقي هي الربَّان الأبرز لثقافة الطفل في العراق في أبهى سنواتها، حفظها الله في غربتها الآن!