أمير صعاليك بغداد

395

بيان الصفدي/

لقبوه بأمير صعاليك بغداد، بل هو ذاته سمى مجموعة شعرية له (مذكرات عروة بن الورد) صدرت عام 1973، واللافت أنه صاحب تحوُّلات غريبة في شخصيته وحياته، لكنها غرابة نستطيع معرفة دوافعها وخلفياتها.
جاء هذا الشاب النجفي المعمَّم إلى بغداد ليتابع دراسته، فلم يكمل هذا الهدف، بل وجد نفسه تحت وطأة “الصدمة البغدادية”، يتيه في شوارعها ومقاهيها وحاناتها، ثم يدمن التسكع العابث والفوضى إلى أقصاها، ولم تنجح كل محاولات إعادته الى العمل أو الاستقرار، وهذا ما حلَّ بهذا الفتى القادم من بيئة ثرية بمعارفها اللغوية والتراثية، ليبدأ فصلاً جديداً من حياته.
في زيارتي الأولى لمقهى (البرلمان) برفقة الصديق ماجد السامرائي، وقبل أن نصل إليه، وبمحاذاة جامع الحيدرخانة، شاهدت رجلاً ممتلئاً وبملامح قاسية يقبض على يد السامرائي قائلاً بغلظة وصوت قوي:
-ماجد.. جيب دينار!
ولفت نظري ارتباك السامرائي وسرعة إعطاء ذلك السائل ما طلب، فمضى دون التفاتة في طريقه، فالتفت ماجد السامرائي إلي وقال:
-هذا الشاعر عبد الأمير الحصيري، لا تستغرب، ستسمع عنه الكثير فيما بعد.
ورحت أتابع الحصيري، ولا أنسى معطفه الذي رأيته مستقبلاً في صورته المشهورة حين كان يفترش الأرض وهو يلبسه.
فيما بعد كنت أراه في مشهد متكرر، يطلب مالاً من الأدباء الذين يعرفهم، والويل لمن يتردد في تلبية طلبه! عندها سيكويه بلسان حاد لا يرحم ولا يستحي.
وكانت أخبار هذا الشاعر تأتيني من كثيرين ممن يجالسونه أحياناً، لكنني شخصياً عملت على قراءة شعره الغزير المنشور وغير المنشور أحياناً، فقد كانت بعض أوراقة لدى بعض جلسائه، وله نثر جميل مميز، كما نلاحظ في هذا المقطع الذي كتبه عن الحرية:
“رحماك أيتها الحرية! إنّك أمي، وأبي، وشقيقي، وشقيقتي، وزوجتي، ودنياي، وصحوي، ومنامي ، وطعامي، وألحاني، إنّك كلّ شيء لدي”
وبدا لي بوضوح أن الرجل ينضح لغة رصينة جزلة، لكنها تحاول جاهدة أن تنتمي إلى العصر، ففي صوره سلاسة وجموح، وأحياناً تجديد وابتكار.
والشاعر في معظم ما كتب يؤرقه هاجس الوحشة في عالمه الداخلي، الذي كونته ثقافات متضاربة، وصدمة الانتقال بين محيطين: النجف-بغداد، مع حياة صعلكة كاملة، أبعدته عن الزواج والاستقرار، بل حتى عن السكنى بالمعنى المعروف، فسخط على الدنيا والمجتمع كما عبّر نثراً ذات مرة: “كلّ يوم أستفيق وأغفو وعلى شفاهي تستفيق وتغفو ألف مليون لعنة سخطاً، ونقمة على هذا العالم”.
لذا راح يغرق ، وتكبر تخيُّلاته وأوهامه ونرجسيته المختفية في معطف التشرُّد والعبث، وقد عبَّر بإبداع عن عمق مأزقه الروحي في قوله:
ما زلت طفلاً غريراً كيف تَقرَبني أنا التشرُّد والحرمان والأرقُ
أنا الشريد لماذا الناس تذعر من وجهي وتهرب من أقداميَ الطرقُ
لكن خاتمة حياته كانت غريبة شعراً ومماتاً، فمن غرائب الشخصية البشرية أن الحصيري العابث اللاهي العدمي يكتب شعراً للإمام علي عليه السلام، وفي الوقت نفسه يخص السلطة الغاشمة وقتها بديوان كامل عنوانه (تموز يبتكر الشمس) صدر عام 1976، إنه سر من أسرار الشخصية القلقة والخائفة والضعيفة من الداخل، أما رحيل الحصيري فكان فاجعاً، حيث وجد ذات يوم ميتاً في مكان لا يليق بالبشر في فندق رخيص، لكن بموته خلت بغداد من شاعر صعلوك، عاش حياته أسطورة من لحم ودم تمشي على قدمين.