أيام التعايش

1٬097

د. كريم شغيدل/

عندما كنت صغيراً كنت أجتاز شارع الخيام ذات النسمات المعطرة برفقة والدي باتجاه شارع الرشيد، فتصادفنا سينما روكسي، بعدها بقليل نجد أنفسنا أمام بناية مميزة، كنت أتهجى حروف اليافطة الكبيرة التي تعتليها: (أسواق حسو المتحدة) واحد من أكبر مراكز التسوق في الشرق الأوسط (مول) لا يضاهيه مركز سوى (أورزدي باك)، عائد لعائلة من أصل مسيحي ماروني من لبنان، يقال بيعت هذه البناية في المزاد العلني وتنافس في المزاد الشيخ مهدي البلاسم مع ابنة مصنع (عرق مسيح) ولا ندري كيف تحول فيما بعد إلى ما سمي بجمعية موظفي الدولة أو جمعية (خير الله طلفاح) حيث مؤلفاته سيئة الصيت التي كانت تفرض مع البضائع وتلقى في المزابل، كنا نمر على محال متقاربة تبيع كماليات السيارات المصنعة يدوياً وأسرَّة المواليد الحديثة (السلال، المهود، الكواريك) يدخل القصب في صناعة الكثير من تلك السلع، لذلك كان يطلق عليهم لقب (القصبجية)، وهؤلاء الحرفيون جميعهم من الطائفة اليهودية، كان يثيرني منظر الرجل العجوز الذي يرتدي السدارة الفيصلية، ويدعى سليمان، محله بالضبط يقع ضمن موقف السيارات الملحق بدائرة عقارات الدولة المجاورة لمسكن أول وزير مالية عراقي (ساسون حسقيل) المشيد سنة 1919، وقد كان وقتها مشغولاً من دائرة الهواتف المركزية، ثم أصبح منتدى المسرح ثم السينما، وأتذكر من أولئك اليهود (داؤود) هكذا كانوا ينادونه، وصباح وسليم مراد وهو أخو الفنانة المعروفة سليمة مراد، يقال بأنه أحب فتاة مسلمة من أهالي ديالى واشترطوا عليه أن يعلن إسلامه فسمي (محمد سليم مراد) وفي المنطقة ذاتها قرطاسية جورج المسيحي ومعرض الحاج أديب للهدايا والتحف والحيوانات المحنطة سوري الأصل من الطائفة العلوية، ومصلح الماطورات الأرمني، ومحل العروسة للأقمشة النسائية الراقية لشخص سوري الأصل أيضاً.

كان هناك خياطون فلسطينيون ومسيحيون ومحال تجارية لعرب سنة وشيعة وكورد، في منطقة تكاد تمثل عراقاً مصغراً يتعايش فيه الجميع، كنت أعي برغم صغر سني أن العلاقات كانت طيبة وإنسانية، وهكذا هي حال شارع الرشيد حتى نصل منطقة المربعة، حيث كرابيت أبو الباسطرمة وهيكاز الحلاق وستراك الاسكافي الأرمني وعصير زبيب أبو بشار الموصلي، وجماعة أيزيديين لديهم مقهى وبار ومكتبة يوسف اليهودي، ومعرض الربيع للهدايا العائد للمرحوم عزت السوري، وقبل ذلك كان محل (عراق سبورت) وهو عائد لشخص هندي الأصل غادر العراق بعد صدور قرار يخيِّر الأجانب بين التجنيس أو المغادرة، ومحال أخرى عائدة لأفيليين وصابئة، وهكذا كانت الحياة التجارية المنفتحة تجمع طوائف المجتمع وأطيافه، وحتى أواسط الثمانينات كان والدي رحمه الله يتعامل مع أحد تجار الشورجة من قدماء اليهود ويدعى (نادر)، وكان هناك طبيب يهودي يدعى (ناجي روبين)، أتذكر مرحه وسخريته ومزاحه مع المرضى، وكثيراً ما كانوا يرددون بأن لسانه المعسول وفكاهته سبب شفاء المرضى وليس الأدوية، ترى أين ذهب ذلك التنوع؟!

التنوع بدأ بالانقراض بصورة فعلية مطلع السبعينات، مع مجيء البعثيين، إذ بدأت آخر حملات تسفير اليهود وأول حملات ما سمي بالتبعية الإيرانية، واجتياح بدو الصحارى والعسكر وأجلاف القرى والقومجية ممن عمقوا ترييف مدينة بغداد وصحرنة مدنيتها، إذ سمعت أول كلمة جارحة وأنا صبي من مفوض أمن قادم من إحدى مدن التصحر، كلمة عانينا من سماعها حتى أصبحت عنواناً للتفرقة والكراهية واحتقار الآخر، ولم أسمع بتلك الكلمة من يهودي أو مسيحي أو عراقي آخر على أيام ذلك التعايش الذي لفظ أنفاسه الأخيرة إبَّان الصراع الطائفي المقيت بعد سقوط صنم الدكتاتورية.