اغنيته الاخيرة ..سطري الاخير!

1٬013

عامر بدر حسون /

وفي العام 1978جلست، وحيداً في مقهى في “كازابلانكا” وطلبت الشاي الأخضر، ومقاهي المغرب هي مقاه على الطريقة الباريسية، فهي بار على مقهى على كافتيريا اضافة لوجود كراسٍ على الرصيف.

كانت هناك مجموعة من الشباب يلعبون الورق، وناس يتناولون اكلات خفيفة.. ولم يكن وحيداً إلا أنا.. وفي اول ايام المنفى، وكنت انظر الى باب المقهى والى ساعتي وكأنني انتظر احداً، فبهذه الحركة البائسة كنت أوحي للآخرين وكأنني لست وحيداً! يعني شيء من حيل الشباب وارتباكاته.

***

ودخل المقهى متسول أنيق يحمل عوداً، وسحب كرسياً وجلس بين الشباب وبين جهاز الأغاني، الذي تضع فيه بضعة قروش وتشغل الأغنية التي تختارها.. وبدأ يدوزن عوده ويدندن.

***

المتسولون في المغرب هم، غالباً، هكذا: عازف او مغنّ يتنقل بين المقاهى ويغني، او مؤدّ لألعاب أكروباتيكية، او مقدم لعرض بانتوميم (التمثيل الصامت).. وعندما ينتهي يحمل صحناً صغيراً يضع الزبائن فيه المقسوم.

بعد الدوزنة والدندنة انطلق المغني الكهل، بمواويل واغنيات لمحمد عبد الوهاب، وتعرفون اصوات المغرب العربي في الغناء وما تفعله بابن البلد فكيف بالغريب؟ وجاءت الأغنية وكأنها تخاطبني:

“لما انت ناوي تغيب على طول

مش كنت اخر مرة تقول”؟

غناؤه كان في غاية الروعة، لم ينشز ولم يخرج على اللحن، ولا داعي لأن اخبركم بالشريط الذي مر في بالي عن الغربة والتساؤل عما اذا كنت سأغيب على طول أم سأرجع لبلدي بعد شهور؟!

***

ولعذوبة صوته ساد الصمت في المقهى، لكن احد الشباب الذين كانوا يلعبون الورق انزعج منه واعتبره فأل سوء! فنهض بسرعة ووضع قطعة نقدية في آلة الأغاني، فانطلقت اغنية شبابية (بمقاييس تلك الأيام) لكن صاحبنا الذي كان يغني استمر في غنائه.. ورفع قليلا من نبرة صوته، وأسرنا صوته بقدر ما ازعجتنا الأغنية الشبابية، وكان من المفروض ان ينسحب المغني أمام هذا الاستقبال، وأمام الآلة.. لكنه شيئا فشيئا بدأ يغني لوحده ولم يعد ينظر الينا.

***

كنت أراقب معركة شرسة تجري أمامي، بين المغني القديم والآلة الحديثة، وللحظات تصورتها معركة دموية.. وهي كانت كذلك بالفعل!
وانتصر المغني الأربعيني بالصدفة، اذ عندما فتش الشاب جيوبه وهو في الطريق الى الآلة ليلقمها بقطعة نقدية، لم يجد شيئاً، فعاد الى مكانه متأففا..

وفي هذه اللحظة انبعث المغني من جديد: لقد هدأ بعد انتصاره، وبدأ يغني كما لو لنفسه! لم يعد ينظر الينا او الى الشاب.. ولو كانت لنا اعين تنظر بعمق، لشهدنا روحه وهي تنبعث مع اللحن فتردد في المقهى الصامت والمنذهل اغنية انتصاره الحزين!

***

عندما توقف عن الغناء، وقف ونظر في وجوه الجميع، ونظر للشاب ثم الى الآلة، وخرج من المقهى، رافعا رأسه، دون ان يحمل الصحن ويطوف به علينا.. لم يعد متسولاً..ولا مغنياً جوالاً: لقد غنى كما لو كان يغني اغنيته الأخيرة!

***

اشعر الأن وانا استذكر تلك “الحادثة” أنني أريد أن أكون مثل ذاك المغني، فأكتب كل كلمة وكل سطر وكأنني اكتب الكلمة الاخيرة في السطر الاخير من الأغنية الأخيرة لمقاومة اليأس والصراع مع أفكار ليس فيها سوى الصخب الشديد!