الأذكياء والاستثمار
أحمد سعداوي
قطع الفكر البشري أشواطاً طويلة قبل أن يصل إلى الإقرار بحقيقة الطبيعة الواحدة لكل البشر، بمختلف أجناسهم وأشكالهم وخلفياتهم الثقافية، وأنه لا توجد شعوب متخلفة وأخرى متقدمة لأسباب جينية أو وراثية، وإنما هي طبيعة السياق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لمجتمع ما مقارنةً بغيره.
يكثر الأذكياء والموهوبون في البلدان المتقدمة، لأن هناك نظاماً تعليمياً يحفز على الابتكار، وبنية تحتية تعليمية متطورة تساعد أصحاب المواهب في تجريب قدراتهم واختبارها في فضاء من التحدي والتحفيز الإبداعي.
كل تقدم وتطور في مختلف المجالات العلمية والإنسانية يعتمد على الإضافات التي يقدمها أبناء البلد من الموهوبين والمبدعين، والبلدان التي تفتقر لهذه الإضافات تبقى متخلفة وعالة على ابتكارات غيرها من البلدان.
أجريت قبل مدة بحثاً عن الأدب الكوري الشمالي الحديث، وواجهت صعوبة في العثور على الأدباء المؤثرين في هذا البلد، مقارنة بما يصدر كل سنة من أعمال إبداعية في كوريا الجنوبية مثلاً، التي وصلت فيها الروائية (هان كانغ) إلى نوبل للآداب لهذا العام. والسبب طبعاً ليس قلة الموهوبين في كوريا الشمالية، وإنما طبيعة النظام الاجتماعي والسياسي الذي يقيد ويحجّم هذه المواهب ويحاول تسخيرها لخدمة خطابه فقط.
ومثلما هو الحال في الآداب والفنون، فإنه ينطبق على كل المجالات العلمية والإنسانية المختلفة، ونقطة البدء هي في البنية التحتية للنظام التعليمي، التي توفر المختبرات وتحترم دروس الفن والموسيقى وغيرها من النشاطات، وتغيير طبيعة التعليم التلقيني إلى تعليم تفاعلي يستفز قدرات التلاميذ والطلبة، ويحفزهم على التجريب والاكتشاف.
من الأمثلة الشهيرة على فاعلية الإنفاق على التعليم؛ الطفرة التي حدثت في ماليزيا في عهد مهاتير محمد، وكذلك ما فعلته كوريا الجنوبية وفنلندا وسنغافورة وأستونيا والصين، وغيرها من البلدان التي جعلت حجر الأساس في التطور هو الاعتماد على مواهب وذكاء الأجيال الجديدة من خلال توفير تعليم متقدم.
ينجح بعض الأذكياء والموهوبين في شق طريق لهم بأنفسهم، من خلال المجهود الشاق وبمعونة المصادفات والحظ الجيد، ويتحولون إلى أشخاص ناجحين، لكن وجودهم هو استثناء لا يغطي على فشل السياق الاجتماعي والسياسي في رعاية الموهوبين والمبدعين، كما هو الحال مع الروائي الصومالي نور الدين فارح، المرشح في أكثر من سنة لجائزة نوبل للآداب، ويكاد يكون المثال الأبرز على الأدب الصومالي الحديث، وما سوى هذا المثال، فإن الأدب الصومالي أدب ضعيف، كما هي مختلف المجالات الابداعية والمعرفية الأخرى في هذا البلد، وأسباب ذلك معروفة.