البقاء للأجمل والخلود للأصلح

1٬046

جواد غلوم/

كثيرا مايحزّ في نفوسنا هول الدمار الذي حلّ بحضارة وادي الرافدين منذ أول وهلة دخل فيها الأميركان بلادنا فاختلطت فرحتي وسعادتي بسقوط الدكتاتورية الصدامية التي كانت مُنيتي قبل حلول مَنيّتي بآثار حزني على مقتنيات وطني الأثرية والعمرانية، ولم انس ماحييت مشاهد النهب والعبث والتدمير الذي حلّ بالمتحف العراقي ومعظم المرافق الثقافية كالمكتبة الوطنية ومتاحف الفن ونهب نفائس المخطوطات واللوحات والأثريات العريقة التي لا تقدّر بثمن.
ثم جاءت داعش لتكمل الخراب فأجهزت على المتاحف وكسّرت ماخلّفته حضارة آشور وهرّبت نفائس إرثنا الحضاري لتقايض به سلاحا ومالا لإدامة حربها القذرة ضد الرقيّ ومنبت التحضّر.
وكلنا يعرف حجم الموت والمجازر التي خلّفتها الحرب العالمية الثانية التي فاقت في ترويعها للبشرية أضعافا مضاعفة مما يجري الان ببلادنا، ورغم شراسة النازية وهمجيتها أثناء حصارها مدينة سانت بطرسبورغ أو لينينغراد كما سمّها السوفييت، لكن هناك أوامر وتعليمات صدرت من القادة النازيين (نعم النازيين) بعدم المساس بمتحف « الارميتاج « الذي كان يضم مايفوق الاربعة ملايين لوحة فنية صنعتها أنامل الفنانين العالميين، ليس هذا فحسب، بل ان مدرسة الرقص والباليه في المدينة نفسها التي كانت تضمّ مايقرب من 200 طفلة برفقتهم الكادر التعليمي بقيت في حماية تامة وصدرت الأوامر ايضاً بعدم الاقتراب منها، بل ان الألمان رغم وحشيتهم كانوا يحملون الأمتعة والأفرشة والمواد الغذائية وكل مستلزمات العيش ليكونوا في مأمن من نار الحرب.
ولست في حاجة الى التذكير بان انجلترا وألمانيا في خضم الموت العائم قد اتفقتا وقتذاك على عدم قصف جامعتي أكسفورد وكامبريدج في بريطانيا وجامعتي همبولت وبتبجن في ألمانيا حفاظا واحتراما للعلم وبقيت هذه الجامعات مصانة برغم كل الهدم والخراب في معظم مرافق الحياة.
وهل اكثر حكمةً وتقديساً للإرث الحضاري والفني عندما قررت النخبة السياسية والثقافية بين دول التحالف ودول المحور ( Axis powers ) حينما تمّ الاعلان عن فتح مدينتي روما وباريس بلا قتال ودخول العدو فيهما دون إطلاق أية رصاصة على الجنود الغزاة الداخلين على هاتين المدينتين حفاظا على معالمهما العريقة وصيانة المتاحف والتماثيل وماخلّفته أيدي أجدادهم من صروح ثقافية وفنية، كي تبقى على وضعها سليمة مهما كلّف الأمر.
أجل هكذا يكون تقدير الفن وتقديس الجمال والإبداع كي ينتصر وحده وتخسر الحروب وقادتها وعابثوها ومخرّبو إرث الشعوب ويرمون في مزبلة التأريخ حتى لو انتصروا ظاهرا، فالحروب وأمراؤها سوف ينسون حتما وتطمر قذاراتهم ومفاسدهم، نسياناً وإهمالا مثل زبَدٍ يذهب جفاءً لكن الإضاءات الانسانية والاشعاعات التي ترقى وتسمو بالنور والتألق تظلّ خالدة حتى لو انبثقت وخرجت من رحم الحرب وتستمرّ أغانيها صادحة أمدا طويلا.
هو ذا سرّ خلود الإبداع وبقاء الفنّ والجمال .