البلبل والفيل!

671

حسن العاني  /

عبد المنعم البياتي، واحد من أقدم اصدقائي في المنطقة يومها (حي السلام)، كان أدرى من غيره بأوضاعي المعيشية، فقد كنت مع أسرتي دون خط الفقر بسبع درجات على مقياس ريختر، هذا الرجل النبيل الذي يعمل موظفاً إدارياً في الإذاعة سألني إن كنت أرغب بالكتابة للإذاعة مقابل أجور، فوافقت قبل أن ينتهي من سؤاله، ذلك لأن الأزمة المالية التي كنت أمرُّ بها كانت كفيلة بأن تجعلني أوافق على العمل مذيعاً في إذاعة تل أبيب، أو ناشطاً مدنياً من نشطاء الـ (C.i.A)!!
وهكذا بدأت الرحلة، ويبدو أن كتاباتي راقت لهم، ليس لأنها جيدة على ما أظن، بل لكوني أكتب بخط واضح ومقروء وبين سطر وسطر، زيادة على انفرادي من دون الكتّاب الآخرين، بتحريك الكلمات نحواً وصرفاً، ولهذا كان فاحص البرنامج والمذيع والمشرف اللغوي والمدير، يترحمون على والديّ وموتاي، غير أن الرحمة التي جنيت منها فائدة شخصية عظيمة، كانت عندما فاتحوني في قضية التنسيب من وظيفتي في التعليم، إلى محرر في الإذاعة، فوافقت قبل أن ينتهوا من المفاتحة، وبذلك أصبحتُ (محرراً على الملاك) وليس (كاتباً خارجياً)، وارتفعت مناسيب دخلي الشهري الى ثلاثة أضعاف راتبي القديم، وأصبحت (نجماً) في أقل من ستة أشهر.
وكان أول ما فكرت فيه، بعد هذا الانقلاب التاريخي في أوضاعي المادية، هو تجديد حياتي الزوجية، خاصة وأن في الإذاعة صبايا يجعلن الرجل يتخلى عن مبادئه، ولكني لم أمتلك الشجاعة الكافية!!
بعد انتهاء تنسيبي الوظيفي عام 1976 على ما أظن، رفضتُ التجديد كما رفضتُ نقل خدماتي لأسبابٍ يطول الشرح فيها، ولكنني واصلت التعامل مع الإذاعة على مدى عدة عقود، كانت حصيلتها عشرات الصداقات الطيبة والعلاقات الحميمة، مازلت أعتزُّ بها وأذكرها بالخير، بل مازلت أتواصل مع بعض الزملاء الى الآن، مثلما خرجت بحصيلة من الوعي الإعلامي، وتجربة غنية في تفاصيل العمل الفني..
على أن أمتع ما في ذلك الزمن الجميل هو أجواء الإذاعة، وما تتسم به من مرح ومقالب وحكايات طريفة ومواقف حرجة ومحرجة.. كنتُ بالطبع شاهداً على بعضها، فيما سمعت الكثير الكثير عن بعضها الآخر، ولعل من أطرف مسموعاتي وأظرفها، تلك الرواية (الواقعية) التي تعود الى خمسينات أو ستينات القرن الماضي –لا يحضرني التاريخ الآن على وجه الدقة، فقد بَعُدَ الزمن واشتعلت الذاكرة نسياناً- ومفادها: أن أحد موظفي الحسابات كان يستغفل مدير الإذاعة (وهو رجل لا علاقة له بالإعلام من قريب أو بعيد)، ويقدم له في نهاية كل شهر قائمة بمبلغ (4) دنانير، تحت باب (طعام البلبل)، والرجل يوافق، ويوقّعُ على مذكرة الصرف، ظنّاً منه أن صوت البلبل الذي تفتتح به الإذاعة بثّها الصباحي هو بلبل حقيقي، وليس تسجيلاً، وظلّ موظف الحسابات يقبض أجور البلبل عدة أشهر قبل افتضاح أمره ومحاسبته بشدة!
في حينها ضحكت وضحك الآخرون من تلك الحكاية، ولا أدري أية ضحكة يمكن إطلاقها اليوم، وقد أصبح أمثال ذلك الموظف الفاسد بالآلاف، وهم لا يقدمون مذكرة لإطعام بلبل بمبلغ (4) دنانير، وإنما لإطعام أسراب من الفيلة، طناً من اللحوم المستوردة كل يوم بمبلغ (4) آلاف دولار، ويجدون من يوقّع مذكراتهم، لأن حصتهم من المبلغ حصة الأسد، وإذا ما افتضح الأمر، كان هناك من يدافع عنهم بسلطته ومركزه وحمايته، ولو واجهته بالحجة وأخبرته “أن الفيلة يا مولانا لا تأكل اللحوم”، سخر منك وقال: كلامك صحيح، ولكن بفضل ثورة التاسع من نيسان المجيدة، أصبحت الفيلة تأكل كلّ شيء.. حتى لحوم البشر!!