البيت..

732

عواد ناصر/

صورة البيت تستعيد نفسها برغم الساكنين، المتنقلين، مقيمين أو مهاجرين، أو المنفيين إن شئتم.

البيت حقيقة هو المكان المفتوح على الذاكرة بتحولاتها وابتكاراتها عندما يرنو المرء إلى نفسه، عبر البيت أو من دونه.

والبيت مجاز أيضاً، له كل مستويات التأويل لينفتح، مرة أخرى، على الحلم أيضاً الذي لا يريده، أيّ منّا، أن يصير وهماً.

تفاعل الحقيقة والمجاز ينتج كفاحاً بشرياً متنوع الأشكال لصناعة «بيت» يليق بالإنسان مقيماً عالي المقام، بين سائر المخلوقات، ومن هنا تتأتى قيمة الكفاح البشري ومغزاه، بل ضرورته، لإنتاج مثل هذا البيت.

البيت هو الوطن، باللغة الانكليزية، وله ما يقاربه في العربية، ولكن بفارق بسيط ربما يعود إلى أن البيت شخصي والوطن عام، بفعل «التربية السياسية» التي سلبتنا «البيت» لتمنحنا الوطن الذي صار مجازاً هو الآخر، ثم وهماً بالغ التجريد لفرط استحالة أن يكون لائقاً بالبشر، فيغترب الإنسان، ينتقل، يهاجر، ينفى، ويزداد الوطن إمعاناً في الاغتراب، ليبلغ درجة التجريد القصوى.

غالباً يرتبط البيت، مكاناً، بالتشكلات المثيرة، المبكرة، من عمر الإنسان، لكنه، للأسف، يتحول إلى «قضية كبرى» أو «معضلة» تستعصي على الحل، لأن البيت يستعصي على التحقق، هنا تكمن أهمية كفاح الإنسان ليكون له «بيت» لائق بالسكنى التي تحتضن تعبه وأحلامه، وأظن أن جوهر الثورات الشعبية، الانتفاضات، التمردات السلمية، التظاهرات هو بحث المشاركين فيها عن بيت يليق بسكنى البشر، وعندما يفشل هذا الكفاح يتحول المكافح إلى مهاجر أو منفي لتختلف اللغة والتفاسير السريعة للفولكلور والاستجابة المطلوبة لأسئلة المحققين على الحدود والمطارات وكل أشكال الاغتراب البدني والثقافي والسيكولوجي.

***

من قصيدة بعنوان «فراق» للروائي والناقد والباحث البريطاني جون برجر – الذي يعتبر نفسه منفياً مقيماً في فرنسا – هذه المقاطع: (*)
«بلغتنا المتشردة/ واللكنة الغريبة/ واسم آخر للحليب/ نأتي في قطارات/ ونتعانق على الأرصفة/ نحن وعرباتنا/ نحن الذين صوتنا الغائب/ مؤطرٌ ومعلّقٌ على جدران غرف النوم/ نتقاسم كل شيء/ ولا شيء/ اللاشيء الذي نشطره شطرين/ ونلتقمه مع جرعةٍ من زجاجة أخيرة/ نحن الذين تعلمنا الحساب من الشحرور/ بأية عملة بدّل الصيارفة غناءنا».

***

إذا كان «الحاضر هو صناعة الماضي» والقولة للمخرج الشهير فلليني، واستتباعاً فالمستقبل ليس صناعة الحاضر، ولا الماضي، في الثقافة العربية، تحديداً، لأن ماضينا أفضل بكثير من حاضرنا، فما الذي صنعه ذلك الماضي بنا؟ لا أحيل هنا سوى إلى ثقافتنا العربية في العصر العباسي.

***

الأحلام البشرية عابرة للأزمنة الثلاثة.. فإما أن نعيش ماضينا مجدداً، أو نحلم بمستقبل أفضل» كما يقال عادة.
إن الطفل، الذي كناه يوماً، «يحلم فيعيش سعادة الحلم التي ستصبح، فيما بعد سعادة الشعراء… يبدو ، إذا اعتمدنا على صور الشعراء، أن الطفولة جميلة سيكولوجياً، وكيف لا نتكلم عن جمال سيكولوجي أما حدث فتان من حياتنا الحميمة؟ هذا الجمال هو فينا، في قعر ذاكرتنا».

(**)

لكننا لم نعد كما كنّا، ولم تعد لأحلامنا تلك الدهشة المفعمة بالوعود والألعاب الخطيرة، مثلما يلعب الساحر بالنار ليبهر الجمهور بأجمعه:
«كلام مشتعل/ سوف أقول ماذا كانت طفولتي/ كنا نخرج القمر الأحمر من مخبئه في عمق الغابات» – الشاعر الفرنسي آلان بوسكيه.
كل تلك الأحلام كانت في مدار البيت، فقيراً كان أم غنياً، على أن أحلام الفقراء أقل واقعية من أحلام الأغنياء.. شخصياً، تعلمت من الفقراء مزاولة أحلام خطيرة بشأن جعل العالم أجمل، بينما كان أصدقائي الأغنياء يتناولون أحلامهم بالشوكة والسكين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) جون برجر (وجهات في النظر) ترجمة فواز طرابلسي – مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي 1990.

(**) غاستون باشلار (شاعرية أحلام اليقظة) ترجمة جورج سعد -المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر 1991.