التطرُّف العراقي

148

حسن العاني/

في وقت مبكر من دراستنا في المرحلة الابتدائية، حفظت -مثل زملائي الآخرين- من التلامذة ، قاعدة من قواعد (الجغرافيا) مفادها بالنص الحرفي [ إن مناخ العراق حار جاف صيفاً، بارد قليل المطر شتاء]. وهذا يعني أنه يتسم بقدر واضح من (التطرف) في صيفه وشتائه على حد سواء. ولا أدري هل هو كذلك في أيامنا هذه بسبب التطرّفات المناخية والثقوب السود والسوناميات؟ أم أنه تحوّل إلى مناخ مزاجي انتقاماً من سلوكنا البشري، ومن حروبنا وقنابلنا وأسلحتنا وعوادم مركباتنا، ومن أكاذيبنا وسوء تصرفاتنا ودجل بعضنا على بعض، حتى تداخلت الفصول، فهو في وقت واحد حار وبارد ومشمس وممطر…! يسقط فيه الحالوب صيفاً، وتشتد الحرارة فيه شتاء!!
هذه المزاجية المناخية انتقلت إلى الإنسان العراقي، فاذا به في قمة التطرف، بحيث إنه لو أقام دعوة غداء أو عشاء لصديقه، هيأ طعاماً يكفي لفصيل عسكري في ساحة المعركة، ثم يجبر ضيفه أن يأكل ويأكل حتى ينقل إلى المستشفى، وهو متطرف في تسامحه مع أسوأ الناس وأشدهم غدراً به، ومتطرف إذا غضب من أعز أصدقائه، فلا يجد حرجاً في إيداع رصاصة في رأسه، تقيمه كلمة صغيرة ولا تقعده، وتقعده كلمة صغيرة فلا تقيمه، يضحك كالأطفال والمجانين إذا فرح، ويبكي كالأرامل إذا مسّه الحزن، يطلق الرصاص الحي في الأعراس، ويطلقه في العزاء.
هذه هي حال العراقي في الكرم والحب والعطف والحنان… وفي الكره والبخل والقسوة والعناد والغضب و …، وهذا وغيره ناتج طبيعي من نتاج مناخه المتطرف، كما يزعم الباحثون والمتحدثون عن الشخصية العراقية!!
على أن الأمر لا يقف عند هذه الحالات التي ذكرناها، برغم أهميتها وكثرتها وتنوعها، بل إنه امتد حتى إلى قناعاته الفكرية والسياسية. من ذلك -على سبيل المثال- إن حرمان العراقيين سنوات طوال من حرية التعبير عن الرأي جعلهم متطرفين جداً بعد نيل هذه الحرية الغريبة على ثقافتهم وسلوكهم، وأعتقد أن من حقهم التطرف، كونه ردة فعل، ولهذا نأى كل واحد بموقفه ورأيه، ولم يقتنع بالآخر، مثلما فشل الآخر في اقناعه، ومن هنا لم يتفقوا على الدستور وتقاطعت آراؤهم حول الانتخابات، وقامت قيامتهم حول الأقاليم والمناطق المتنازع عليها، ولم يتفقوا على العَلم ولا النشيد الوطني ولا التجنيد الإلزامي ولا الموازنة ولا قانون العفو.. الخ. وتعدّت خلافاتهم من القضايا الداخلية إلى الخارجية.
على أن أغرب غرائب التطرف العراقي هو الذي لمسناه في ميدان السياسة، فأقطاب العملية السياسية وكياناتها متوحدون جداً إلى حد التطرف في الدفاع عن أنفسهم ووجودهم واستمرارهم في قيادة البلاد وحكمها، لكنهم حين يتعلق الأمر بتوزيع الحصص، وهذا من نصيبك وهذا من نصيبي، ينسون وحدتهم ويبلغون أعلى درجات التطرف في الخصومة… ترى هل هذا أيضاً بسبب مناخ العراق؟ أم أنه بسبب ثروات العراق؟!