الثلاثة الذين وردوا أحراراً
جمعة اللامي/
قبل عدة أيام، وجدت غريب المتروك يكلم صديقه الوفي “مسمار”، معالناً مرة وهامساً مرات أُخر، فقلت لنفسي: ماذا حدث لصاحبي؟ ألا تكفيه صحبتي وصحبة “مسمار”؟ ألم يتّعظ بما جرى لصديقنا المشترك، الشاعر العراقي الشريد الطريد عبد الأمير الحصيري؟
“أنا الشريد..! لماذا الناس تذعر من وجهي؟
وتهرب من قدامي الطرق!”
(عبد الأمير الحصيري)
أم أنه لا يريد في العلم منزلة، فأخذ يحدث كلبه “مسمار” بما لا يسمح به المقام من سيرة مصطفى وهبي التل، ومحمد شكري، و جان دمو، وتيسير سبول، وخليل حاوي، فتصنّع العُجمَ أمام صديقه الأعجم الذي يعرف أنه ذرب اللسان، ركّاض مثل تأبط شرّاً.
لكن أفكاري تسري في مسرى دم صاحبي المتروك، كما كانت الحرية تسري في سلوك الشاعر القاص الأردني عرّار، أو مصطفى وهبي التل، كما يفضل دارسوه -بعد وفاته بسنوات- الإشارة إلى اسمه الصريح ونسبه وقبيلته. وبالنسبة لعرّار، فهو – حياً وميتاً – غير معني إن جاء ذكره في محفل رسمي عرضاً او تقصداً، إذ إنه أدرك قبل أن يدرك غيره معنى أن يكتب الكاتب كلماته أنه عاش – حياً – منسياً، أو عاش – ميتاً – منسياً أيضاً، حتى لو وضعت صورته على طابع بريدي مثلاً، لأنه يعتبر هذا كله من اشتراطات ثقافة استهلاكية استعراضية، في أي مكان أقيمت سراديقها، بينما الذين يحفظون ودّ عرّار هم الذين ينفرون راجلين وعلى ضامر، إلى تلك “الوديان” العربية، حيث ربات الشعر، وسلالات المطاريد الركاضين إلى تفاحة الشعر والحياة التي لا يمكن أن تلمس.
وهذا هو شان تيسير سبول، فإن تلك الرصاصة التي أنهت حياته بعد كارثة الخامس من حزيران، أراد لها أن تكون على مستوى فرادة الإعلان الذي يمارسه عرّار حياً وميتاً، الآن وفي المستقبل.
وفي أسواق الحياة التي يصممها بعض المستغلين بالثقافة على مقياس احترافهم الثقافي، الإعلامي الفج، الاستهلاكي الغثّ، لا يجد الحصيري ذكراً لـ عرّار، ولا يقابل جان كوكتو صديقنا جان دمو، ولا ترفع تلك المرأة الخجولة: أديث بياف، حاجبيها تعجباً.. وهي ترنو إلى مسرح غير شوارع روحها.
لا شيء من هذا كله قطعاً، إنما الذي نلمسه تعايش بين دكتاتور ونسخة من الشعراء وأنصاف الفنانين وكسور الذين يلهثون وراء حرف يسقط من علٍ، على الحصيري وعرّار وبياف، فلا يمسكون بنهايته.. أبداً!