الجار قبل الدار!!

464

#خليك_بالبيت

حسن العاني /

في حياتنا العامة والخاصة مفردات بالغة الاهمية، نتداولها بكثرة، من دون ان نلتفت اليها جيداً، أو ننظر الى حجمها الحقيقي، وربما كانت لفظة “الجار” أو “الجيران” من بين اكثر تلك المفردات اهمية بسبب حضورها الواسع دينياً واجتماعياً وسياسياً، وليس خافياً على أحد ما ورد في الادبيات الدينية، وخاصة الاسلامية من ان الله سبحانه وتعالى اوصي بسابع جار، وكلمة “سابع” هنا لا يراد بها كما اعتقد “المبالغة” – وهي احدى اساليب البلاغة العربية – بقدر دلالتها التي تذهب الى ان “الجار” لا يقتصر على المجاورة المباشرة، اي الحائط على الحائط، بل يتعدى الامر الى دائرة اوسع واشمل، وربما كانت الصورة الدلالية الواردة في معنى الحديث النبوي الشريف، من ان جبريل (ع) كما يقول الرسول الكريم (ص)- ما زال يوصيني بالجار حتى ظننتُ ان سيورثه- ومعلوم ان التوريث في المصطلح الشرعي قائم بين الاهل وافراد الاسرة، وهذا يشير الى منزلة الجار الرفيعة التي ترقى الى مستوى الاهل…
ومن هنا يقال ان للجيران حرمة، والحرمة كما هو معروف هي من نصيب (المقدسات)- بالمعنى الشائع لهذه المفردة- وكل منزلة رفيعة، فدور العبادة مثلاً والمراقد والمقامات والمضايف وبيوت الناس والاباء والامهات والازواج وبعض ايام السنة وشهورها…الخ تجمعهم صفة الحرمة، ويؤثر عن الشعب العراقي انه من اوفر شعوب الارض حظاً في تقدير الجيرة، والوقوف مع الجار وقفة مشرفة في حزنه ومصيبته وحاجته وفرحه، ومن الاسر المتجاورة من بلغت المحبة بينها، والعلاقة الوطيدة، الى حد تفضيل الجار الغريب على ذويها من الاقارب…
لعل اطرف ما قرأته في هذا المجال، حكاية تراثية اوردها الاندلسي في كتابه (العقد الفريد)، وذلك ان رجلاً دفعته الحاجة الى عرض داره للبيع، وطلب فيه (10) الاف دينار، وهو سعر يفوق ضعف السعر الحقيقي، وحين اراد احدهم الشراء، قال لصاحب المنزل: يا رجل ان بيتك لا يستحق اكثر من (4) الاف دينار.. فما الذي يميزه عن غيره حتى تغالي في الثمن؟! رد عليه مالك الدار: صدقتَ والله… إنه لا يساوي اكثر من (4) آلاف دينار، ولكنك ستجاور (أبا دلف) وهو نعم الجار ونعم الرجل!!، وابو دلف ان لم تخذلني الذاكرة والمعرفة، قائد عسكري له شأن في العصر العباسي.. ومن وجهاء الحي وكرمائه، وتذكر رواية العقد الفريد، إنّ أبا دلف حين بلغه خبر جاره، وكيف جعله (أغلى) من داره، غمرته السعادة، ووَهَبَهُ (10) الاف دينار، وطلب منه البقاء في منزله!!
أمر طبيعي ان نجد بالمقابل جاراً سيئاً هنا او هناك، يصدّرُ لنا الطائفية والقاعدة وداعش، ويدعو لنا بالعلن ويدعو علينا في السر، ولهذا شاع القول المأثور (إسأل عن الجار قبل الدار)، وهو قول ينمُّ عن خبرة وتجربة وحكمة، وبالنظر لمفهوم الجيرة الواسع، فقد درجت اللغة الدبلوماسية واعرافها على استعمال عبارة (علاقات حسن الجوار)، وهي لا تخص علاقات العراق مع سويسرا مثلاً او فرنسا (وياليتها كانت تخص)، بل يراد بها الدول التي تربطها حدود جغرافية معنا، ولان نصف هذه الدول من النوع الذي أتعبنا ولم يحترم علاقات حسن الجوار، فقد حشره العراقيون في خانة مثلهم الشعبي القائل (كومة حجار.. ولا ها الجار)، مع عظيم الاعتزاز بالنصف الاخر الذي يتمنى لنا الخير ويدعو لنا في السر والعلن.. راجياً اعفائي من اي ايضاح…

النسخة الألكترونية من العدد 362

“أون لآين -5-”