الخالة فضيلة

357

حسن العاني/

لو كانت لدينا صناعة سينمائية بلغت الحدود الدنيا من التطوّر لما تركتْ قصّة السيدة (فضيلة) من غير أن يلتقطها الكتاب ويتنافس عليها المخرجون ويتسابق المنتجون.. صحيح أنّ حكاية هذه السيدة تندرج تحت مظلة السينما الواقعية، ولكن من الصحيح كذلك أنَّ شهودها والقريبين جدّاً من أحداثها يعدّون بالآلاف، ومعظمهم ما زال على قيد الحياة،
ومن هنا يأتي دور السينما للإفادة من كلام الناس وانطباعاتهم وحبّهم لحكاية هذه السيدة وسيرتها الذاتية.
على أية حال، تعود هذه القصة الى زمن قريب هو نهاية العقد السابع من القرن الماضي يوم تزوّجت فضيلة من الشاب (عباس) الذي أحبته وأخلصت له، وأحبها وأخلص لها، وجاء هذا الزواج بعد رحلة من المتاعب والمصائب، كان أشدّها مرارة وقسوة، عناد ابن عمها الذي رفع سلاح (النهوة)، على الرغم من أن في ذمته زوجتين، ولكن عزيمة وإصرار العاشقين انتصرا، وكانت الثمرة انجاب ولد أسمياه (أيمن) ما كاد يبلغ الثالثة من العمر حتى توفي والده غرقا، ولم يكن لدى فضيلة عون ولا مورد رزق الا الاعتماد على الله وعلى نفسها وما يجود به معارفها وجيرانها، وليس كالعراقيين أحد في الكرم والنخوة، وهكذا تحمَّل الجميع كل شيء بما في ذلك إيجار بيتها الصغير الذي أبى مالكه بعد ترمّلها أن يتقاضى ديناراً واحداً..
فضيلة التي باتت بمرور الزمن تدعى (الخالة) بعد أن ذبل عودها، كانت تعتذر ما وسعها الاعتذار عن قبول أي عون أو مساعدة مهما كان نوعها، ولكن طيبة العراقيين أجبرتها على القبول بدموع صامتة و… وحرصت في الوقت نفسه على مساعدتهم في أفراحهم وأحزانهم ومناسباتهم، وهمها الأكبر هو أن يواصل ولدها دراسته.
كان أيمن منذ بلوغه مرحلة الاعدادية يوزّع وقته بين المدرسة وبين العمل، وأي درهم او دينار يحصل عليه يضعه في يد أمه، كان مفخرة لها وعنواناً للابن البار في أعراف المحلة، و .. وها هو يذهب الى الكلية ويتسّلم شهادة تخرّجه في كلية الصيدلة بدرجة امتياز، ويعود مسرعاً الى أمه التي تنتظر عودته على أحرّ من الجمر، لولا أنَّ رصاصة طائشة من رصاصات الطائفية أنهت فرحته وفرحة فضيلة وأحلامها.. ومن يومها أصرّتِ (الخالة) الطيبة على أن تتدبّر أمورها بالكدّ والتعب، وعانت الويلات من شظف العيش حتى باتت تأكل يوماً وتصوم يوماً، وتنتظر من يلتفت اليها وقد تعاقبت على الحكم رئاسات للجمهورية والوزراء والبرلمان، وارتفع سعر النفط من 18 دولاراً الى 140 دولاراً، وسمعت مئات الوعود الوردية، وجرت انتخابات أعقبتها انتخابات، وتجاوزت رواتب (ممثلي الشعب) حدود المنطق والمعقول و.. وهي تأكل يوماً وتصوم أسبوعاً.. وتأكل يوماً وتصوم شهراً، ثم صامت العمر كله، ولم يسأل عنها مسؤول، ولم يطرق أحد بابها.. اللهم الا أيام الانتخابات !!