الخبز والخبّازة

731

حسن العاني  /

تزخر المكتبة العربية بعشرات التآليف التي تناول فيها المعنيون بالتراث الأدبي موضوعة “الأمثال”، وذهب غير واحد منهم إلى القول بأن أمثال العرب التي يعتد بها هي التي تنسب إلى “العصر الجاهلي” فقط، وكل ما جاء بعده ينظر إليه بشيء من التحفظ. ومن هنا ظهرت في وقت لاحق تسمية “الأمثال المولدة”.. وعلّة هذا التشدّد أن الأمثال التي سبقت العصر الإسلامي كانت تقوم على ثوابت متعارف عليها، والمثل يؤخد كما ورد عن صاحبه بغض النظر عن صياغته وقوّته وركاكته، لأنه نتاج وضع نفسي طارئ غير قابل للمراجعة او التعديل، كما أنه ولد في عصر سابق للعصور اللاحقة التي شهدت الكثير من حالات “الوضع والافتعال” وهذا يعني أنه يتميز بالصدق والعفوية والواقعية..
تؤلف أمثال العرب ثروة هائلة من الحكايات الحقيقية، ومن المعاني والإشارات التي يصح الاستشهاد بها، من ذلك: (أنجز حرٌّ ما وعد/ ذكّرتني الطعن وكنت ناسياً/ إن الليل طويل وأنت القمر.. الخ).
ولعل العبارة التي أطلقها الشاعر امرؤ القيس وهو في مجلس شراب وقد بلغه مقتل أبيه “اليوم خمرٌ وغداً أمرُ” تلخص الكيفية العفوية الآنية والمرتجلة التي كان يُصاغ بها المثل..
هناك فارق بين (القول والمثل)، فالأول –باختصار- يقوم على التأني والتروي والتأمل، وله أهداف يود الوصول اليها، ومع ذلك هناك الكثير من الأقوال والأبيات الشعرية اكتسبت قوة المثل وإنْ لم تكن مثلاً، من ذلك (إذا متُّ ظمآناً فلا نزل القطر/ على قدر أهل العزم تأتي العزائم/ وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر)، بل إن القرآن الكريم يتضمن العديد من الآيات التي وضعها الدارسون تحت باب (الأمثال القرآنية) وإن لم تكن كذلك بالمعنى الحرفي أو الأكاديمي.. وهكذا تم ابتداع تعبير لطيف لكل ما هو ليس مثلاً سواء في الكتاب الكريم أو الشعر أو الأغاني أو الأقوال، ولكن الناس تعاملت معه كمثل في خطابها وهذا التعبير الشامل هو: جرى مجرى المثل!
في العقود الأخيرة من الخلافة العباسية، حين تمزقت هذه الإمبراطورية إلى إمارات ودول صغيرة، وتراجعت العربية الفصحى تراجعاً محزناً لأسباب كثيرة، في مقدمتها تحوّل المجتمع إلى خليط من الألسن، ظهرت (لهجة) هجينة، يصح القول إنها فصيحة قريبة من العامية، أو عامية قريبة من الفصحى، ومن هنا بدأت في العصور اللاحقة، تزدهر العامية والأقوال والأمثال العامية، من ذلك (مو كلمن صخم وجهه كال آني حداد) أي (ليس كل من سخّم وجهه قال أنا حداد)، وبالمعنى نفسه تقريباً ابتكرت الناس قولاً جرى مجرى المثل (إنطي الخبز لخبازته) أي (اعطِ مهنة الخبز لمن تجيد هذه المهنة). ويلاحظ أن هذه الأمثال الشعبية، التي تعبّر عن تجربة العراقيين وخبرتهم وذكائهم، كانت من قوة التأثير بحيث استعارها السياسيون وترجموها الى لغتهم فقالوا (الرجل المناسب في المكان المناسب)، وهذه العبارة في حقيقتها ترجمة لعبارة (انطي الخبز لخبازته)، وإذا انتبهنا إلى المعنيين كليهما، فسنجد أنهما يشترطان “التخصص”، ولم يشترطا الدين أو المذهب أو القومية أو الحزب أو المحاصصة أو (خوش آدمي) أو (ابن حموله) أو مناضل أو لديه خدمة جهادية أو.. لأن هذه التوصيفات شيء، وفن إدارة الدولة شيء آخر، ولهذا مضت كل هذه السنوات المرّة والمريرة علينا ونحن نأكل أرغفة خبز بعضها (معجّن) وبعضها (محروق) وبعضها (معفِّن) ومعظمهما غير ناضج، مع أن الطحين (خوش طحين)، ولكن من تتولى إعداد العجين والخبز، على ما يبدو، قد تكون خياطة ماهرة أو حلّاقة خبيرة أو راقصة باليه مذهلة، إلا أنها، والله العظيم، ليست عجّانة ولا خبّازة، ولم تقف يوماً وراء تنور، ولذلك تدهورت صحتنا وتعرضنا إلى سوء الهضم ومتاعب القولون والأمراض المزمنة وأوجاع الروح..