الرغيف الأسود !

156

جمعة اللامي /

قال غريبُ المتروك: “ماذا سيحدث لكم ولنا، وحتى لسكان القبور، إذا ما استيقظتم من نومكم، ورأيتم الناس في كل بلدة، يحتذون مبادرة الناس في ساحات البلدان العربية منذ بداية هذا القرن؟”
“قال مجاعة بن مرار لأبي بكر: إذا كان الرأي عند منْ لا يقبل منه، والسلاحُ عند من لا يستعمله، وكان المال عند من لا ينفقه، ضاعت الأمور.”
(البيان والتبيين)

قلت: صدق من قال: “ما هكذا تورد – ياسَعْدُ الإبل.” ثم تملَّيْتُ صاحبي جيداً، فخيِّل إليّ أني أراه أمام الناس، حاملاً رغيف خبز أسود، وهو ينادي “الله الله، في الفقراء والجياع.”
كأنه أدرك ما يدور في خلدي، فقال: “اعلم يا صاحبي أن الناس إذا ما رفعوا أرغفة الخبز فوق رؤوسهم، فإنها إشارة إلى كل صاحب عقل، ودعوة إلى كل ربِّ قلب، ونداء إلى ذي مروءة، أن يتمنطق بإزاره، ويخرج إلى الميادين صارخاً، أو باكياً، أو ضاحكاً، أو مستجيراً، ولسان حاله يقول: “لا يلومَنَّ المُبطنون إلاّ أنفسهم.”
قلت: كأنك لا تريد ان تستشهد بالشعراء، فكلك اليوم خطبة في خطبة، وخطيب في أعقاب خطيب.
قال المتروك: يقول صاحبكم الجاحظ، حول الشاعر والخطيب والعرب: “كان الشاعر أرفع قدراً من الخطيب، وهُمُ أَحْوجُ إليه لرد مآثرهم عليهم وتذكيرهم بأيّامهم، فلما كَثُرَ الشعراءُ، وكثر الشِّعْرُ، صار الخطيب أعْظمَ قدراً من الشاعر.”
ثم قال بغتة: “الرغيف هو القصيدة، والرغيف هو الخطبة، وهو الأندلس، وهو بغداد، وفلسطين، والإسكندرون، وقصر الحمراء، وجزر سرنديب، وآثار العرب المنهوبة.”
ورفع ذراعيه نحو السماء، عالياً، عالياً، فكدت أرى أنه سيطير، فهالني حاله، وكبر عليَّ وضعه، فقلت أُسلّيه بكلمة مثل فاكهة الفقراء: النار، إلاّ انه لم يكن معي. كان يشكو أمر الناس إلى ربّ الناس. وكان صوته يأتي إليّ عميقاً من أبعد نقطة يسكن فيها جائع وفقير: “أعطيتهم ما طلبوا مني، قالوا: فتحاً، فقلت: نعم. وقالوا جَنَّة، فقلت: نعم. أخذوا أرضي، واستولوا على ثروة وطني، واشتروا فيّ وباعوا، فقلت: الصَّبْر، الصَّبْر. لكنهم لا يعرفون أن ثمة حدوداً لصبري.”
– “هكذا! أليس هذا عيبا؟”، وكان قد أخرج رغيف خبز أسود من جيب جبته، ثم قال:
ـــ “إذا كنا نُجوَّع عن قصد، فهذا ما لا يرضاه الله، ولا يقبل به رسوله، ويرفضه العقل والضمير.”
قلت له:
ـــ ” أي غريب ــ يا أخي، تعال معي إلى الساحات والشوارع، فعندها نعرف الفجر الصادق فقط.”