الرواية والدراما

87

أحمد سعداوي

لا تصلح كل الروايات أن تتحول إلى أعمال سينمائية أو درامية، فمساحة التخيل الأدبي واسعة، تعتمد في فاعليتها على ما يقوم به القارئ من (مسرحة) للكلمات على شاشة العرض في ذهنه
قبل سنوات، داخل أروقة شبكة الإعلام العراقي، خضت حواراً حول فكرة شراء حقوق رواية (أرض السواد) للروائي الراحل عبد الرحمن منيف، لتحويلها إلى ثلاثية تلفزيونية عراقية. لكن يبدو أن المشروع، إنتاجياً، كان أضخم من الإمكانات المتوفرة، لذا طوي الموضوع ورُكن جانباً.
الفكرة هنا تتعدى خدمة الأعمال الروائية الجيدة وإيصالها إلى مساحة أكبر من المتلقين، وإنما حقن الدراما بقوة الأدب، وأيضاً ـ لأن الأعمال الأدبية غالباً هي تعليق على ماضٍ ما ـ فإنها تقدم عمقاً في الفهم، وتأثيثاً للذاكرة الاجتماعية والوطنية. كلنا اليوم، على سبيل المثال، نعرف نجيب محفوظ بسبب السينما والدراما المصرية التي حولت أعماله الأدبية إلى مشاهد بصرية نابضة، وصار الكثير من مفردات محفوظ وشخصياته جزءاً من الثقافة الشعبية.
ربما الموازي العراقي لمثال نجيب محفوظ هو غائب طعمة فرمان، وفي روايته (النخلة والجيران) تحديداً، التي تحولت، ابتداءً من منتصف ستينيات القرن الماضي، إلى أعمال مسرحية ودرامية، وصارت (النخلة والجيران) معروفة، نسبياً، خارج نطاق القراء.
بسبب سخونة الحدث السياسي والاجتماعي الراهن، يميل كتّاب السيناريو العراقيون اليوم إلى التعليق على اللحظة الراهنة، وهناك موقف مضطرب إزاء الماضي الوطني وانقسام وغياب الرؤية الموحدة، كما أن هؤلاء الكتّاب، غالباً، لا يريدون تقاسم (المجد) مع كاتب آخر، بالإضافة إلى متطلبات القراءة وتخيل شكل (السيكربت) المناسب للرواية. وفوق هذا وذاك، هناك شيء لا يحتكم إلى مزاج الكاتب، وإنما إلى الماكنة الإنتاجية، التي قد ترى في العودة إلى الماضي، بأكسسواراته و(لوكيشناته)، وأزيائه الخاصة، وتحاشي العناصر الحديثة في مشهد الشارع والحارة والبيت اليوم، أمراً مكلفاً بالإنتاج.
غير أن أهمية اللجوء إلى الروايات في الدراما لا يفترض به أن يحتكم إلى مزاج السوشيل ميديا الذي صار حاكماً على كل أفعالنا ومشاريعنا وتصوراتنا، وإنما بقيمة وطنية وإنسانية كبيرة تسعى إلى تأثيث الخيال الوطني، وإشعار المتلقي العراقي بوجود ذاكرة جمعية، وأننا غير محكومين بعناصر الحاضر فحسب.
بالتأكيد لا تصلح كل الروايات أن تتحول إلى أعمال سينمائية أو درامية، فمساحة التخيل الأدبي واسعة، تعتمد في فاعليتها على ما يقوم به القارئ من (مسرحة) للكلمات على شاشة العرض في ذهنه، لكن الدراما تبحث عن الصورة والحركة والفعل. هناك مثلاً ما يقارب الستين صفحة في رواية (العطر) لـ (باتريك زوسكند)، مرّ عليها مخرج الفيلم المنتج عن الرواية سريعاً، لأنها تجريدات وتأملات من الصعب تحويلها إلى صورة.
إن خوض هذه التجربة يحتاج إلى تمويل كبير وقرار وطني، وإلى شخصيات فنية وإدارية كفوءة تقف على رأس هذا المشروع، ولدينا روايات عديدة تستحق أن تتحول إلى دراما وسينما لكتّاب، ابتداءً من فؤاد التكرلي إلى مهدي عيسى الصقر، وعلي بدر، وشهد الراوي، ونصيف فلك، وخضير فليح الزيدي، وأزهر جرجيس، وعبد الله صخي، وضياء الجبيلي، وإنعام كجه جي، وغيرهم كثير، تحوي عناصر درامية نابضة، وسيكون مهماً رؤيتها على الشاشة، ليس من أجل متعة المشاهدة فحسب، وإنما لتأثيث الخيال الوطني للعراقيين، وألا يبقوا فقط حبيسي الصور التي تنتجها صراعات الحاضر ذات الأفق الضيق.