السياب.. نخلة العراق

472

بيان الصفدي /

صرت أقلِّد شعره، وتسحرني عواطفه وأحزانه وثورياته، ولأول مرة آمنت أن الشعر الحديث أقرب إلى روحي، بعد أن كنت منغمساً في الشكل العمودي.
لا شكَّ أن علاقتي بالسياب تطوَّرت فيما بعد كثيراً بعد أن قرأت شعره ودراسات عنه، وصار أحد معلميَّ القلائل شعرياً، وكتبت له قصيدة بعنوان (بكائيات إلى بدر شاكر السياب) في مجموعتي الأولى (ويطرح النخل دماً) الصادرة عام 1976.
لذا عندما اخترت العراق لدراستي الجامعية صارت زيارة جيكور حلماً قابلاً للتحقيق، ومن حسن الطالع أن رابطة الطلبة السوريين قد أعلنت عن رحلة إلى البصرة بعد وصولي إلى العراق بأشهر قليلة، فكان أن رأيت البصرة لعدة أيام في أول فبراير-شباط من عام 1977، وسحرني شط العرب والقرنة وأم قصر وأبو الخصيب، حيث تقع جيكور، وهي قرية صغيرة جداً، وأدهشني أن نهر بويب الذي تغنى به السياب لا أكثر من جدول كبير، وهكذا يحول الشعراء الأشياء العادية إلى رموز كبرى، لكنني كنت أتنشق هواء أبو الخصيب، وأحس أن غابات النخل فيها عيون صبايا فاتنات كما قال السياب في مطلع قصيدة (أنشودة المطر).
والتقيت بالسياب لأول مرة، لكن مع تمثاله، فكتبت قصيدة (أمام تمثال السياب) ومنها:
“ولكنني الآن أيقنت مرتعباً أنني لا أراكَ/ وأنك سافرت نحو العدمْ/ وأن جداراً من الضوءِ/ بيني وبينكَ قبل البكاء انهدمْ/ ثم أجهشت تحت المطرْ/ كان بدرٌ حجرْ!”
ولا أنسى الطفل الصغير الذي حملنا في مشحوفه في رحلة قصيرة في أبو الخصيب، حين سألته إن كان يعرف شاعراً كبيراً من هذه المنطقة، فأجابني على الفور وباعتزاز:
-السياب!. تكررت زياراتي إلى البصرة، وجيكور، والبيت المهجور الذي عاش فيه السياب، والذي رُمِّم فيما بعد، وظل خيال السياب لا يفارقني، حياةً مأسوية وشعراً عظيماً، ووجدت نفسي أمام تمثاله من جديد، كان ذلك أثناء المربد السابع عام 2010 الذي دُعيتُ إليه في ظرف أمني خطير، وكان لقائي الأول بالعراق بعد عام 1982، فكتبت له قصيدة (شظايا فقط) منشورة في مجموعتي (كتابها) بعد أن رأيت بقايا شظايا على معطفه:
“السياب لم يمتْ/ مازال هناك/ واقفاً عند شط ِّ العرب/ ملوِّحاً بيده/ لم يتعب/ لم ينَمْ/ وللمصادفة لم يمت/ اطمئنوا/ لقد رأيته بعينيّ/ شظايا فقط/ أصابت معطفه الرمادي/ وإلى الآن/ مازال في مكانه/ ملوِّحاً بيده للعابرين.”
لكن آلمني أن أجد الأوساخ تحيط بالتمثال، بل تتراكم على الضفة التي وراءه، وعلى بعد أمتار قليلة، وتذكرت أن تلك الأوساخ تحيط بالتمثال بسبب الإهمال، ما كان يدفع زوجته إقبال لتقوم بالتنظيف، وهو أمر قرأته من قبل أيضاً في الصحف خلال فترة دراستي في بغداد، ولمّا طلب بعض الحضور زيارة منزل السياب، تملَّص المسؤولون، وعرفت أن الأمر يتعلق بالإهمال الذي عليه المنزل، فقد تخرَّب بعد ترميمه السابق، ما سيحرجهم أمام حضور معظمه من الأجانب وقتها. ظلت للسياب قامته وقيمته العاليتان عند الجميع، وقد كانت لي مساهمة أخيرة من عامين، عندما نشرت في مجلة (نزوى) العُمانية حواري مع الشاعر سليمان العيسى وذكرياته عن السياب، وقد كان زميل دراسة وسكن له أوائل الأربعينيات في دار المعلمين العالية، ثم نشرتُ سيرة الشاعر للأطفال وصدرت عن هيئة الكتاب في وزارة الثقافة السورية.
السياب سيظل نخلة من نخلات العراق، تلوح لنا بحروفها الخضراء.