الشيخ صاحب

298

غادرت‭ ‬العراق‭ ‬مبعداً‭ ‬ولم‭ ‬أعرف‭ ‬بالضبط‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬الشيخ‭ ‬صاحب‭!‬

ربما‭ ‬يساعدني‭ ‬الآن‭ ‬أحد‭ ‬العراقيين‭ ‬بكشف‭ ‬تلك‭ ‬الشخصية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنسى،‭ ‬فقد‭ ‬كنت‭ ‬وقتها‭ ‬أعمل‭ ‬في‭ ‬دار‭ ‬ثقافة‭ ‬الأطفال،‭ ‬لكنني‭ ‬بلا‭ ‬سكن،

فبعد‭ ‬عملي‭ ‬بأسابيع‭ ‬كان‭ ‬صديقي‭ ‬المرحوم‭ ‬تركي‭ ‬عبيد‭ ‬قد‭ ‬منحني‭ ‬سريره‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬داخلي‭ ‬قرب‭ ‬جسر‭ ‬الصرافية‭ ‬أبيت‭ ‬فيه،‭ ‬أما‭ ‬هو‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬سهلاً‭ ‬عليه‭ ‬تدبير‭ ‬أموره‭.‬

كان‭ ‬عبيد‭ ‬صاحب‭ ‬محاولات‭ ‬أدبية،‭ ‬فكثيراً‭ ‬ما‭ ‬كنا‭ ‬نلتقي‭ ‬ونسهر،‭ ‬ويطلعني‭ ‬على‭ ‬محاولاته‭ ‬الأدبية،‭ ‬والطريف‭ ‬أن‭ ‬مشروعه‭ ‬الأدبي‭ ‬دُفِن‭ ‬في‭ ‬مهده‭ ‬لسبب‭ ‬مؤلم،‭ ‬فقد‭ ‬نشر‭ ‬قصيدة‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ (‬الطليعة‭ ‬الأدبية‭) ‬بتدخل‭ ‬مني‭ ‬عام‭ ‬1977،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬عادة‭ ‬المجلة‭ ‬الحميدة‭ ‬أن‭ ‬تكلف‭ ‬أدباء‭ ‬مهمين‭ ‬بالتعقيب‭ ‬على‭ ‬المنشور‭ ‬في‭ ‬عددها‭ ‬السابق،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬سوء‭ ‬حظ‭ ‬صديقي‭ ‬تركي‭ ‬أن‭ ‬لسعه‭ ‬عبد‭ ‬الوهاب‭ ‬البياتي‭ ‬بكلمات‭ ‬قاسية‭ ‬جعلته‭ ‬يطوي‭ ‬صفحة‭ ‬النشر‭ ‬نهائياً‭!‬

تركي‭ ‬صديق‭ ‬وفي‭ ‬وقارئ‭ ‬ممتاز،‭ ‬وذات‭ ‬يوم‭ ‬جاءني‭ ‬مدهوشاً،‭ ‬وطلب‭ ‬مني‭ ‬مرافقته‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬إلى‭ ‬أمام‭ ‬مقهى‭ ‬على‭ ‬الشارع‭ ‬قرب‭ ‬جسر‭ ‬الصرافية،‭ ‬قائلاً‭ ‬لي‭:‬

‭-‬أرجوك‭ ‬تعال‭ ‬معي‭! ‬أكاد‭ ‬لا‭ ‬أصدق،‭ ‬لقد‭ ‬عثرت‭ ‬اليوم‭ ‬على‭ ‬كنز‭ ‬عجيب،‭ ‬شخص‭ ‬يبدو‭ ‬كشحاذ‭ ‬أمام‭ ‬المقهى‭ ‬ينام‭ ‬على‭ ‬الرصيف‭ ‬ويعيش‭ ‬فوقه،‭ ‬لكنه‭ ‬مثقف‭ ‬كبير،‭ ‬لقد‭ ‬جلست‭ ‬معه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ساعتين‭ ‬أسأله‭ ‬وأستمع‭ ‬إلى‭ ‬أجوبته‭ ‬ونصائحه،‭ ‬وقرأت‭ ‬له‭ ‬مما‭ ‬كتبت،‭ ‬فوجه‭ ‬لي‭ ‬ملاحظات‭ ‬في‭ ‬منتهى‭ ‬الذكاء‭ ‬والذوق‭ ‬والفطنة،‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬تتعرف‭ ‬بهذا‭ ‬الرجل‭ ‬العجيب،‭ ‬إنه‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلي‭ ‬كأنه‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬متصوفة‭ ‬بغداد‭ ‬ودراويشها‭ ‬الكبار‭ ‬الذين‭ ‬قرأنا‭ ‬عنهم‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬بطون‭ ‬الكتب‭!‬

أسرعت‭ ‬مع‭ ‬تركي‭ ‬متلهفاًعلى‭ ‬هذه‭ ‬اللقية،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬اقتربنا‭ ‬من‭ ‬رصيف‭ ‬ذلك‭ ‬المقهى‭ ‬حتى‭ ‬رأيت‭ ‬رجلاً‭ ‬جالساً‭ ‬يترنح،‭ ‬وهو‭ ‬ينشد‭ ‬بعض‭ ‬الأبوذيات،‭ ‬فاقتربنا‭ ‬نستمع،‭ ‬وننتظر‭ ‬أن‭ ‬ينتهي‭ ‬الشيخ‭ ‬صاحب‭ ‬من‭ ‬غنائه،‭ ‬كان‭ ‬يتحلَّق‭ ‬حوله‭ ‬معنا‭ ‬بعض‭ ‬الشباب،‭ ‬ينصتون‭ ‬بتأثر،‭ ‬بينما‭ ‬تقف‭ ‬سيارة‭ ‬أحياناً‭ ‬فينزل‭ ‬راكبها‭ ‬بهدوء‭ ‬ويدسُّ‭ ‬قنينة‭ ‬في‭ ‬معطف‭ ‬الشيخ‭ ‬صاحب‭ ‬ويمضي،‭ ‬بينما‭ ‬لاحظت‭ ‬أن‭ ‬شيخنا‭ ‬بين‭ ‬حين‭ ‬وآخر‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬جيب‭ ‬معطفه‭ (‬بُطلاً‭)‬،‭ ‬فيرتشف‭ ‬منه‭ ‬ثم‭ ‬يتألَّق‭ ‬غناءً،‭ ‬وحين‭ ‬ينهي‭ ‬وصلة‭ ‬من‭ ‬وصلاته‭ ‬الغنائية‭ ‬يتقدم‭ ‬منه‭ ‬المحيطون،‭ ‬فهذا‭ ‬يسأله‭ ‬سؤالاً‭ ‬ثقافياً،‭ ‬وآخر‭ ‬يطلب‭ ‬رأيه‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬أو‭ ‬قصة‭ ‬دسَّها‭ ‬في‭ ‬جيبه‭ ‬قبل‭ ‬يوم‭ ‬أو‭ ‬أيام،‭ ‬والطريف‭ ‬أن‭ ‬الشيخ‭ ‬صاحب‭ ‬كان‭ ‬أحياناً‭ ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬السلطنة‭ ‬والشرب‭ ‬يتوقف‭ ‬عن‭ ‬الكلام‭ ‬الجاد‭ ‬والإجابات‭ ‬وينطلق‭ ‬في‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أبوذياته،‭ ‬لكن‭ ‬وسط‭ ‬احترام‭ ‬المحيطين،‭ ‬بل‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬خشوعهم‭.‬

تكررت‭ ‬وقفتي‭ ‬تلك،‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬انتقالي‭ ‬إلى‭ ‬السكن‭ ‬في‭ ‬مبني‭ ‬اتحاد‭ ‬الشباب‭ ‬في‭ ‬ساحة‭ ‬عنتر،‭ ‬وقد‭ ‬حاولت‭ ‬مراراً‭ ‬أن‭ ‬أعرف‭ ‬حقيقة‭ ‬ذلك‭ ‬الدرويش‭ ‬بلا‭ ‬طائل،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬صاحب‭ ‬ثقافة‭ ‬موسوعية‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬والأدب‭ ‬العربيين‭ ‬قديماً‭ ‬وحديثاً،‭ ‬وفي‭ ‬الأدب‭ ‬العالمي‭ ‬واللغة‭ ‬الإنكليزية،‭ ‬وكنت‭ ‬أسأله‭ ‬أحياناً‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭:‬

‭-‬شيخ‭ ‬صاحب‭! ‬حضرتك‭ ‬أستاذ‭ ‬جامعي‭ ‬سابق؟

فكان‭ ‬ينظر‭ ‬إلي‭ ‬بعينين‭ ‬دامعتين،‭ ‬ولا‭ ‬يتكلم،‭ ‬بل‭ ‬ينطلق‭ ‬بأبوذية‭ ‬جديدة‭.‬

  ‬في‭ ‬الشتاء‭ ‬القارس‭ ‬لا‭ ‬يغير‭ ‬مكانه‭ ‬ولا‭ ‬جلسته‭ ‬تلك،‭ ‬وذات‭ ‬مساء‭ ‬شديد‭ ‬البرودة،‭ ‬وكان‭ ‬الجو‭ ‬زمهريراً‭ ‬قارساً‭ ‬رأيت‭ ‬الشيخ‭ ‬جالساً‭ ‬بدشداشته‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بيضاء‭ ‬ذات‭ ‬يوم،‭ ‬ومعطفه‭ ‬الرقيق،‭ ‬وهو‭ ‬ينشد‭ ‬ويجيب‭ ‬عن‭ ‬أسئلة‭ ‬السائلين،‭ ‬لكنني‭ ‬قلت‭ ‬له‭:‬

‭-‬شيخ‭ ‬صاحب‭ ‬ألا‭ ‬تشعر‭ ‬بالبرد‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجو؟

فنظر‭ ‬إلي‭ ‬نظرته‭ ‬المعروفة‭ ‬تلك،‭ ‬المعجونة‭ ‬بدموعه،‭ ‬وأجابني‭ ‬كدرويش‭ ‬أصيل‭ ‬وبالفصحى‭:‬

‭-‬يا‭ ‬بني‭! ‬البرودة‭ ‬الوحيدة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬أشعرها‭ ‬في‭ ‬روحي‭ ‬فقط،‭ ‬جسدي‭ ‬لا‭ ‬يحس‭ ‬ببرودة‭ ‬ولا‭ ‬حرارة‭!‬

مضت‭ ‬أشهر‭ ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬أرى‭ (‬الشيخ‭ ‬صاحب‭)‬،‭ ‬فقد‭ ‬كنت‭ ‬أمر‭ ‬بمطعم‭ ‬صغير‭ ‬دوماً‭ ‬لشاب‭ ‬فلسطيني‭ ‬يحضِّر‭ ‬ألذ‭ (‬جظ‭ ‬مظ‭) ‬تناولته‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬قرب‭ ‬جسر‭ ‬الصرافية،‭ ‬وظننت‭ ‬أن‭ ‬الشيخ‭ ‬قد‭ ‬توفاه‭ ‬الله‭ ‬ربما،‭ ‬ومضت‭ ‬أسابيع‭ ‬وأسابيع،‭ ‬حتى‭ ‬حصلت‭ ‬تلك‭ ‬الحادثة‭ ‬المشؤومة‭ ‬مع‭ ‬الأصدقاء‭ ‬فاضل‭ ‬عواد‭ ‬وعبد‭ ‬الإله‭ ‬الصائغ‭ ‬وف‭. ‬ح‭ ‬السوري‭.‬

بعد‭ ‬أن‭ ‬خرج‭ ‬صديقي‭ ‬السوري‭ ‬ف‭. ‬ح‭ ‬قال‭ ‬لي‭:‬

‭-‬لن‭ ‬تتوقع‭ ‬ماذا‭ ‬رأيت‭ ‬داخل‭ ‬مديرية‭ ‬الأمن‭ ‬العام‭ ‬معتقلاً‭.‬

قلت‭ ‬بلهفة‭:‬

‭-‬من؟

أجابني‭:‬

‭-‬شخص‭ ‬وقور‭ ‬وحزين‭ ‬ومهشَّم‭ ‬الملامح‭…‬الشيخ‭ ‬صاحب‭! ‬ماذا‭ ‬يريدون‭ ‬من‭ ‬رجل‭ ‬بيته‭ ‬الرصيف؟‭!‬