الطب والسياسة

784

حسن العاني /

من الحقائق التي ترقى الى مستوى البديهيات، ان جميع الاختراعات والاكتشافات التي شهدتها البشرية منذ فجر التاريخ حتى يومنا هذا، لا تدين بالفضل لشعب يعيش في الغابات او السهول او الجبال او الصحارى او المياه، ولا لشعب أبيض او أسود او أصفر او (أملح) كالعراقيين، ولا لأمّة مجزأة أو (واحدة ذات رسالة خالدة) من دون الأمم الأخرى، بل هي نتاج العقل الإنساني المبدع، وحضاراته المتواصلة المتعاقبة على امتداد كوكبنا الأرضي الجميل.

ثمة حقيقة أخرى يجب الاعتراف بها، وهي أن المبتكرات العلمية صغُرَ شأنها أم عظُم، كانت بالغة الأهمية خاصة في مرحلتها وأنها في الوقت نفسه، أشبه بسلسلة طويلة من الحلقات المتشابكة، كل حلقة ترتكز على ما قبلها، وتفتح الآفاق لولادة حلقات لا متناهية في سلّم التطور المستقبلي، ومع ذلك ففي كل مجال وميدان ومكان، هناك ابتكار متميز جداً، لأنه يعدّ نقلة نوعية في المنجز الحضاري، والأمثلة على ذلك كثيرة، فاختراع الحرف على أرض سومر العراقية لا يقارن في أهميته مع ابتكار (دشداشة شاكر)، واكتشاف توماس أديسون للكهرباء، لا يقارن مع ابتكار (بابا غنوج)، وهكذا يجري القياس، على الرغم من ان الحروف السومرية أورثتنا دوخة الرأس ومواجع الحضارة، بينما سترت دشداشة شاكر أجساد الرجال، وعلى الرغم من أن بابا غنوج أطيب من الكهرباء، وألذ ألف مرة، ورخيص ومتوفر!!

انطلاقا من هذه القاعدة، يتفق علماء العالم أجمع، بمن فيهم علماء السنّة والشيعة، على أن المخدر (البنج)، هو أعظم اختراع بشري في ميدان الطب، ليس لأنه وضع حداً للآلام التي يصعب احتمالها فقط، وانما لكونه كذلك أدى الى تطور علم الجراحة، والوصول الى مناطق، في جسم الإنسان، كان الوصول اليها مستحيلاً من دونه، خاصة القلب والمخ والعين.. الخ، وأصبح التخدير علماً قائماً بنفسه، ولا ننسى قضية أخرى، مرتبطة به، ولا تقل أهمية عنه، وهي اختراع نوع من الأقراص والعلاجات المهدئة التي تعطى للمريض بعد زوال أثر البنج لمواجهة الآلام الحادة للعمليات الجراحية، ويرى بعض الأطباء بأن هذه المهدئات أو “مسكنات الألم”، تؤدي وظيفة طبية وإنسانية موازية لوظيفة المخدر.

السياسة التي تدسّ أنفها، كما هو معروف، في الصغيرة والكبيرة، لم يفتها حتى (البنج)، فاستعارت مفردة المخدر أو التخدير، وأدخلته ضمن قاموسها الذي يتسع لكل شيء، ولم تكن هذه الاستعارة حكراً على الشرق أو الغرب، بل أصبحت ظاهرة أممية وان كانت في بلدان العالم الثالث على وجه الخصوص أوسع نطاقاً وأكثر شمولاً، ولا ريب اننا في العراق جزء من هذه الظاهرة العالمية، ففي العادة يوصف تصريح أي مسؤول، بأنه سيوفر الكهرباء بعد 3 أشهر، ويصدرها الى الخارج بعد 6 أشهر، أو أنه سيوفّر السكن للجميع بعد 4 سنوات، أو يقضي على البطالة والفساد والتزوير، أو.. أو.. الخ، أقول: يوصف مثل هذا التصريح، أو التصريحات، على أنه دعوة واضحة لتخدير المواطنين، وأنا –يشهد الله- لستُ منزعجاً ولا قلقاً من هذه التصريحات أو الوعود، ولستُ ضدّها حتى لو كانت لأغراض التخدير، ولكنني أشعر برعب حقيقي، لأن المسؤولين لم يوزعوا علينا أبداً، أي نوع من المهدئات أو المسكنات التي يمكن استعمالها بعد زوال آثار المخدر!!